الأحد، 11 ديسمبر 2016

طبيب كُل علّة



حياة والتر رالي ومماته

هند هيثم


رسم جون إيفرِت ميليه، الذي كان أحد مؤسسي حركة ما قبل الرافاييلية في الرسم الإنكليزي، لوحة "صبا رالي" في 1871، بعد مرور أكثر من قرنين ونصف على إعدام والتر رالي في 1618. في اللوحة، يظهر والتر وأخوه الشقيق كارو مُستمعين إلى حديث رجلٍ مُسن يظهر أنّه بحار - أو صياد - وهو يحكي لهما عن البحار البعيدة - كما يُمكِن أن يُفهم من إشارة يده. يفصل الثلاثة عن البحر جدارٌ منخفض، وحولهم رموز مختلفة منه، مثل السفينة المصغرة وجزء من دفّة مركب كبير. يجلس والتر مرتدياً بزة خضراء أنيقة، وإلى جواره قُبعة مريشة، يُشير بها ميليه إلى أناقة رالي التي اشتُهِر بها، فقد كان أحد أشهر رجال الملكة إليزابِث وأكثرهم جاذبية.

لوحة ميليه ذات طبيعة رومانتيكية، بطبيعة الحال، ففيها براءة ودهشة ورغبة في زيارة العالم الواسع ورؤية ما وراء البحر، كما أنّها تُضفي على رالي مظهر الطفل الحالم الذي يعبر المُحيطات بسبب الرغبة في الاكتشاف، عِوضاً عن كونه مُغامراً استعمارياً. غير لوحة ميليه، تحضر صورة رالي كثيراً في القرن التاسع عشر، إذ توجد الكثير من الرسومات له وهو يُدخِن الغليون، أو في بلاط الملكة إليزابِث، أو على منصة الإعدام، في كُتب تاريخية وهزلية وخيالية مُختلفة، بشكلٍ يجمع بين الافتتان بشخصيته، والافتتان بالعصر الذي كان فيه، وفي الوقت نفسه، ينتقد إنكلترا رالي وإنكلترا الفكتورية. مع ذلك، تغلب الصورة الرومانتيكية لرالي على الصور الأخرى في ذلك القرن. رُبما تعود رومسة صورة رالي - في القرن التاسع عشر، ذروة الإمبريالية البريطانية - إلى رغبة في إضفاء لمسة رومانتيكية نبيلة على فكرة الاستعمار نفسها، واستحضار صورة رالي نفسه استحضارٌ لصورة مُركبة من عهد إنكلترا الذهبي، فقد كان رالي رجل عهد إليزابِث الشهير، صنعَهُ عَصْرُه وساهم في صُنْعِ عَصرِه.

بورتريه بيضاوي لرالي من رسم نيكولاس هيليارد، الذي
اشتهر برسم هذا النوع من البورتريهات، في 1585، سنة
منح رالي رُتبة الفروسية

كان رالي جُندياً، ومُزارعاً، وتاجراً، وعطاراً، وبحاراً، وشاعراً، ومؤرخاً، ورجل بلاط، توصل إلى منصب قائد الحرس الملكي في فترة من الفترات. لم يكُن لدى رالي نسبٌ عريق يُسنده، ولا ثراء عريض. خالة والدته كانت مُربية إليزابِث، وقد قدمته هو وإخوته الأربعة - واحد شقيق وثلاثة من أمه - إلى البلاط ليجربوا حظوظهم، فلقوا حظوظاً مختلفة من النجاح. في بدايته، حظي والتر رالي بدعم من إيرل لستر الذي كان مُقرباً من الملكة، مما أسهم في صعود نجمه. كما أنّ كونه الأخ غير الشقيق للسير همفري غيلبرت قد ساهم في تمهيد الطريق له.

صعود نجم رالي كان بالنسبة للكثيرين من النُبلاء القُدامى علامة إضافية على تراجع القيم الإنكليزية الأصيلة، والتدهور الذي أصاب إنكلترا. إليزابِث الأولى كانت آخر ملوك تيودر، وآل تيودر أنفسهم لم يكونوا من النبالة الإنكليزية العريقة، بحُكم أنّ هنري السابع - أول ملوك تيودر - قد ورث العرش بنسب من جهة أمه - لا أبيه - لذلك كان يُصِر على أنّه ملكُ بريطانيا بالتغلّب، وما النسب إلا عون، فقد هزم ريتشارد الثالث في معركة بوزوورث، وقُتِل ريتشارد في المعركة. في عهد ابنه الشهير، هنري الثامن، انفصلت كنيسة إنكلترا عن روما، وغرقت البلاد في اضطرابات مُتتابعة، وتفجرت ثوراتٌ في أماكن مُختلفة من بريطانيا. ثم بعد عهود مضطربة لأخيها وأختها، جاءت إليزابِث لتُكمل مسيرة أبيها في إتمام الانفصال عن كنيسة روما، وإهمال النبالة الإنكليزية العريقة لصالح طبقة من النُبلاء الجُدد يدينون جميعاً بولائهم لها، إذ يستمدون ثرواتهم وجاههم وألقابهم منها مُباشرة.

والتر رالي كان واحداً من هؤلاء، رغم أنّه لم ينل لقب نبالة. كان أول بلاء حسن له في حصار سمرويك 1580، إبّان ثورة ديزموند الثانية في إيرلندا، وقد قاتل بشجاعة، نال معها نصيباً من الأراضي الإيرلندية التي استولى عليها الإنكليز بعد الانتصار على الإيرلنديين، فصار مِن مُلاكِ الأراضي. ثُم انصرف إلى البحر، وخاض رحلاتٍ عديدة إلى المُستعمرات الإسبانية في أمريكا الجنوبية، وأبحر في نهر أورينكو بين فنزويلا وغيانا، وتعلّق بفكرة المدينة الذهبية إلدرادو، وكان مِمَن روجوا لها ونشروها في بريطانيا. أخو رالي، همفري غيلبرت، كان ذا اهتمامٍ شديد بالبحر كذلك، وقد كانت له استثمارات واسعة في أمريكا، كما أنّه كان من دُعاة الإبحار إلى الصين عن طريق ممر شمالي غربي، كان في حينها أقرب إلى الخرافة.

 بعد أن حقق رالي شُهرة كبيرة، وأحرز قدراً من الثراء، انصرف إلى الاهتمام بشؤون البلاط والتجارة والشعر ورعاية الفنانين لزيادة جاهه. ومن ضمن الفنانين الذين كانوا في رعايته، كريستوفر مارلو، الكاتب المسرحي والشاعر. وقد عارض رالي قصيدته "مقالة الراعي المُتيّم لحبيبته" بقصيدة شهيرة له: "رد الحورية على الراعي"، مُعارضاتهما والتحكيم بينهما من المواضيع المُفضلة في الأدب الإنكليزي، ومن ذلك حكم الشاعر الإنكليزي ويليام كارلوس ويليامز لرالي بالسبق في القرن العشرين في قصيدته: "كان رالي مُحقاً".

أسكنت إليزابِث رالي في القصور، فكان يُقيم الحفلات التي يرتادها الناس من كُل بقعة، وقوى ذلك الحقد عليه، كما زاد في شعبيته، وجعل له مكانة خرافية بين الناس، فقد كانت القصص تُروى عن كرمه وشهامته وشجاعته وثرائه العريض وحُسن بيانه وذلاقة لسانه وأناقة ملبسه وحركاته وسكناته. واحدةٌ من القصص الشائعة عنه - رغم أنّها غير حقيقية كما يرى كثير من المؤرخين - أنّه قد وضع عباءته على رقعة مبللة من الأرض لتدوس عليها الملكة إليزابِث فلا يتسخ حذاؤها وحاشية ثوبها.

أُنعِمَ على رالي بالفروسية في 1585 لحُسن بلائه في قمع الثورات الإيرلندية، ولجهوده الحثيثة في نشر المذهب البروتستانتي في إيرلندا. وكان أخوه، همفري غيلبرت الذي سبقه إلى إيرلندا وأمريكا الشمالية قد توفي قبل ذلك بعامين. ولعلّه من مُفارقات حياة رالي العديدة اتهامه بالهرطقة في مرحلة لاحقة من حياته من قبل أعدائه، وكان ذلك جُزءاً من الحرب ضده، خصوصاً من مؤيدي خصمه روبرت ديفرو، إيرل إسكس. ويُقال إنّه من نتائج هذه الحرب التي شُنّت عليه اغتيال كريستوفر مارلو الذي ما زال موته يُسبب انقساماً كبيراً بين المؤرخين الإليزابيثيين.

رالي في البُرج


رغم شُهرة رالي بوصفه مُستكشفاً ومُغامراً، إلّا أنّه قد قضى ردحاً من حياته في بُرج لندن الشهير، الذي كان سجناً للنبلاء والشخصيات العامة والأشخاص الذين يُعتبرون خطراً مُباشراً على العرش - كما هو الحال مع المُبشرين اليسوعيين الذين كانوا ممنوعين من دخول إنكلترا. سُجناء بُرج لندن من ذوي الحيثية كانوا مسؤولين عن نفقات إقامتهم، والأثرياء منهم كانوا قادرين على استقدام خدمٍ ومعاونين لهم في سجنهم، كما أنّهم كانوا يستطيعون استقبال الزوار. السُجناء الآخرون كانوا ضيوف الملكة، لكنّ تجربتهم في السجن مختلفة، فقد كانوا يقتاتون على الخُبز والماء فحسب، مع أنّ الخُبز من نوعية جيدة، كما أنّهم كانوا يتعرضون للتعذيب في أقبية البُرج.

سُجِن رالي ثلاث مرات في البُرج. مرةً في شبابه، في عهد إليزابِث الأولى، ومرتين في عهد جيمس الأول - تحت طائلة الحُكم بالإعدام - قبل أن يُعدّم.

إليزابث ثروكمورتن


إليزابِث "بِس" ثروكمورتن، 1600
بورتريه من رسم روبرت بيك الأكبر
في 1591، تزوج سير والتر - الذي كان ذا مكانة عالية في البلاط وقتها - من إليزابث ثروكمورتن، واحدة من وصيفات الملكة، تصغره بأحد عشر عاماً. بقيت الزيجة سراً لفترة، حفاظاً على مكانة الزوجين في البلاط، فقد كانت ثروكمورتن وصيفة للملكة، لا يحق لها أن تتزوج إلا بإذنها، مِمَن ترتضيه لها. كما كان رالي صاحب نفوذٍ كبير يعتمد على رضا الملكة عنها، فقد كانت الملكة هي من منحته لقب فارس جاعلة إياه سير والتر، وهي من أعطته بيت دورام في لندن وضيعة شربورن في دورسِت، كما أعطته حق إدارة مناجم القصدير في كورنوال وديفون.

حِفاظاً على مكانته في البلاط، كان على رالي أن يُخفي زيجته. وحين وضعت إليزابِث ثروكمورتن طفلهما الأول داميراي، فقد غادرت البلاط في فترة الوضع، ثم عهدت بالرضيع إلى مُرضعةٍ في بيت دورام - بيت رالي - وعادت إلى البلاط كأن شيئاً لم يكُن. مع ذلك، اكتُشِفَ أمرُ الزيجة. وزُجَ رالي وثروكمورتن في السجن بأمرٍ من الملكة.

بقي رالي في السجن خمسة أسابيع فحسب، ثم أُفرِجَ عنه بأمرٍ من الملكة، ولم تعُد زوجته إلى البلاط بعدها، لكنّه حاول استرجاع مكانته في البلاط بعد خروجه من السجن، واستغلال أعدائه الكثيرين للجفوة التي تعرّض لها من أجل الخلاص منه. كان بين رالي وبين الملكة مُعاملاتٌ مالية كثيرة، وتمكّن من إقناعها بإعطائه الإذن الملكي الذي كان ممنوحاً لأخيه همفري غيلبرت لاستكشاف نيوفوندلاند، وتوسعته بحيث صار لديه مرسوم ملكي باستكشاف أراضي أمريكا الشمالية والاستيلاء على أي أرضٍ لا تخضع لحُكم أميرٍ مسيحي باسم إليزابِث ملكة إنكلترا وإيرلندا.

خاب ظن الملكة برالي عندما لم يأتِها بالذهب الوفير من المستعمرات الأمريكية الشمالية التي استكشفها باسمها، أو الفضة، بل جاءها بنباتات غريبةٍ بدلاً عن الذهب. وكان من ضمن النباتات التي جاء بها رالي التبغ. فيما بعد، سيصير التبغ نوعاً من الذهب، لكنّه كان موضة لدى علية القوم في أيام رالي الذي اشتُهِر بتدخين الغليون، وثمّة غليون مُعيّن يُعرَف به. كما نُسبت للتبغ خصائص علاجية كثيرة. الازدهار الكبير لزراعة التبغ والاتجار به جاء في عهد جيمس الأول، خليفة إليزابِث، لكن، حتى في زمن جيمس، كان العرش يُريد ذهباً وفضة مُباشرة، لا سلعاً كمالية.

مع ذلك، زادت مكانة رالي قُرب وفاة إليزابِث، وعُيِّن حاكماً لجيرسي. كانت المشاكل قد زادت، وإيرلندا لم تهدأ، بل زادت مشاكلها كثيراً. أرسلت الملكة أحد المُقربين منها، روبرت ديفرو، إيرل إسكس، الذي كان بينه وبين رالي تنافسٌ شرسٌ في بلاطها، ليتعامل مع الأمور في إيرلندا. كانت قيادة ديفرو مشوشة، ولم يكُن قادراً على إحكام السيطرة على الأمور. كما أنّه كان يعتمد على وعد المُحاربين بمنحهم رُتبة الفروسية ليضمن ولائهم، وقد كان الإيرلنديون يسخرون من ديفرو قائلين إنّه لم يكُن يسحب سيفه إلّا ليمنح رُتبة الفروسية فحسب.

رالي كان نائب ديفرو، لكن ديفرو لم يسمح له بتولي دورٍ قيادي. وكان لفشل ديفرو الذريع في إيرلندا، وما جرى فيها، ذيولٌ بعيدة أثرت على حياة رالي فيما بعد. الملكة إليزابِث عاتبت ديفرو قائلة: "لو كُنا نُريد خسارة إيرلندا، ما كُنا لنُرسلك إلى هُناك." خسر ديفرو حظوته عند الملكة، واتهَم - هو وأنصاره - رالي بأنّه المسؤول عن زوال هذه الحظوة، فقد ترافق سقوط ديفرو مع عودة رالي إلى دوائر الملكة وقبوله هُناك بقبول حسن.

تمرد إسكس


روبرت ديفرو، إيرل إسكس الثاني، 1596
بورتريه من رسم ماركوس غيرارتس الأصغر

ثمّة فصلٌ عجيب في أواخر عهد إليزابِث، بطله إيرل إسكس، روبرت ديفرو. فبعد أن فقد حظوته لدى الملكة، قاد ديفرو هجوماً مُسلحاً على القصر لـ"يُحرر الملكة" من استبداد العامة من حولها، وليُنقذ نفسه من الموت، فقد بث أعوانه بين الناس أنّ العامة في بلاط إليزابِث يُخططون لقتله ظُلماً. لم يكُن رالي الوحيد من العامة الذي كان يحظى بالقُرب من الملكة. رجال إليزابِث الآخرين كانوا آل سيسِل - الذين صعدتهم هي واستوزرتهم - وفرانسس والسنغهام، رئيس الاستخبارت الإنكليزية واسع النفوذ في أوروبا كُلها. كان والسنغهام وسيسل الأب قد توفيا، وكذلك توفي إيرل لِستر، روبرت ددلي، الذي كان قريباً إلى قلب إليزابِث، وكان زوج أم روبرت ديفرو، فتناقصت مراكز القوى حول إليزابِث، وحدثت بلبلة في البلاط.

الأمور غير واضحة بخصوص مؤامرة ديفرو. إذ أنّ خُطة ديفرو الأولى كانت الحث على قيام تمردٍ شعبي في لندن يعضد قواته عند اقتحام القصر، وبخلاف ما أعلنه من رغبته في تحرير الملكة، فإنّ الخُطة كانت تهدف إلى خلعها وتصفية بلاطها. لم يتمكن ديفرو من تنفيذ الشق المتعلق بتهييج الناس في لندن، إذ أنّ مجلس الملكة قد استدعاه قبل اليوم الذي عيُّن لبدء التمرد ليُدافع عن نفسه ضد التُهِم الموجهة له، مما أبطل حجة التآمر عليه لقتله. رفض ديفرو الامتثال لاستدعاء مجلس الملكة فضح نواياه، مما جعل روبرت سيسل يُشدد الحراسة في لندن والقصر الملكي، فقطع عليه خطوط الإمداد من خارج لندن، وحرمه من إمكانية الاعتماد على دعم العامة داخل المدينة. هاجم ديفرو القصر بقواته الخاصة، وصُد الهجوم، وكان رالي ممن ساهموا في صد الهجوم. اعتُقِل ديفرو وجماعته، وأُخِذوا إلى بُرج لندن حيث حوكموا لتآمرهم على العرش. بدأت جولات عديدة من الوساطات، وقد كانت إليزابِث - التي كانت مريضة ومُسنة - ميالة لإبداء الرحمة إزاء من ذُكِر تورطهم في المؤامرة.

جيمس ستيوارت - الأول من ملوك إنكلترا بهذا الاسم، السادس من ملوك إسكتلندا - كان ولي عهد إليزابِث، وقد ذُكِر اسمه ضمن المتورطين في المؤامرة. ويظهر أن الصلة بين جيمس ستيوارت وروبرت ديفرو كانت عن طريق أخت ديفرو، الليدي بينيلوبي ريتش، وقد كان أبو أولادها من المُقربين من جيمس ستيوارت. في النهاية، قررت إليزابِث أن تضرب صفحاً عن المسألة بكُلها، فهي راحلة، وجيمس ستيوارت سيرِثُ كُل شيء. هكذا، اقتيد ديفرو وحده إلى منصة الإعدام في بُرج لندن، وأُعدِم من دون طقوس التنكيل التي كانت تنزل بالخونة. مع ذلك، عند إعدامه، صرّح ديفرو بأن أخته بينيلوبي كانت من ضمن المتآمرين، وقد أغضب هذا الملكة، والطبقة النبيلة، إذ أنّ ديفرو كان من النبالة القديمة، وليس من رجال إليزابِث مُحدثي النعمة.

بقيت أحقادٌ شديدة ضد رالي، وسرّت حكاية خبيثة بين النُبلاء تقول إنّ رالي قد ذهب إلى بُرج لندن ليُشاهِد إعدام ديفرو ويشمت به من وراء إحدى نوافذ البُرج، مُدخناً غليونه، فأججت الحقد عليه. وما أن ماتت إليزابِث، وزحف جيمس إلى لندن مع المتورطين في مؤامرة ديفرو، اعتُقِل رالي بتهمة تدبير مؤامرة لاغتيال الملك الجديد، وأعيد إلى بُرج لندن، فيما أُطلِق سراح المتآمرين الرئيسيين مع ديفرو.

حياة في البُرج


سُجِن رالي في بُرج لندن في 1603 ووُلِد ولده الثالث - والناجي الوحيد من أطفاله بعد موت داميراي في المهد ومقتل والتر شاباً - كارو في 1604، فقد كان رالي من السُجناء ذوي الحيثية الذين يحقُ لهُم استقبال الزوار، وقد كانت إليزابِث ثروكمورتن تُقيم معه هي وولدهما والتر عندما يتوفر لهم ذلك، وفي الأوقات التي كان الطاعون يزور فيها لندن، كان رالي يحاول إبعاد أسرته عن المدينة. سعت إليزابِث بكُل ما وسعها لحماية زوجها من حُكم الإعدام، لكن جهودها لم تُكلل بالنجاح، وإن كان عدم تنفيذ حُكم الإعدام به يُعزى إلى كون آل ثروكمورتن، أهلها، مِمَن ساندوا ماري ملكة الإسكتلنديين، أم جيمس.

كان رالي أحد ضحايا مؤامرة مزعومة، تُسمى المؤامرة الرئيسية Main Plot. المُفترض أنّه كانت ثمّة خُطة بتمويل إسباني للخلاص من جيمس الأول واستبداله بقريبته أرابيلا ستيوارت. دور رالي المزعوم كان استقبال هنري بروك: لورد كوبم، المتآمر الرئيسي، حين عودته بالمال الإسباني، في جيرسي التي كان حاكمها. الدليل الوحيد ضد رالي كان إفادة مكتوبة من كوبم نفسه، وقد رفض الظهور في المحكمة ومواجهة رالي حسب القانون. كان ذلك هامشياً، إذ أنّ المقصود كان التخلّص من رالي، وبرغم كُل محاولات الالتماس والتوسط، حُكِم على رالي بالإعدام، وأُرسِل إلى البُرج بانتظار تنفيذ الحُكم. عاش رالي زمناً عصيباً، فقد كان ينتظر تنفيذ الحُكم بين لحظة وأخرى، وقد كتب لزوجته رسالة عذبة في ليلة كان يظُن معها أنّه سيُعدّم صباحاً، غير أنّ جيمس الأول تركه في السجن ثلاثة عشر عاماً.

شيئاً فشيئاً، أخذ رالي يتأقلم مع حياته في البُرج. وقد أُتيحت فرصة لزراعة التبغ والنباتات العجيبة التي جاء بها من الأمريكيتين في فسحة من حديقة البُرج، كما أنّه تمكن من كتابة بضعة مُجلدات عن تاريخ العالم، استقى فيها من مصادر بعدة لغات، وكان يستقبل الزوار في البُرج، وبعضهم من النُبلاء، فقد ذاعت شُهرة الأشربة المُعالجة التي كان يصنعها من نباتاته الغريبة ومن مواد أخرى في خلطاتٍ نصفها علم ونصفها سحر، وكان يقصده الناس من كُل مكانٍ طلباً لها.

كان من زُملاء رالي المُميزين في السجن إيرل نورثمبرلاند، هنري بيرسي، الذي كان مُتهماً بالمُشاركة في مؤامرة البارود ضد جيمس الأول لأنّه لم يحضر إلى البرلمان في اليوم الموعود. بيرسي كان من أثرى الرجال في المملكة، فكان لديه طباخٌ خصوصي وخدم يقومون على خدمته، وكان له عدة غرفٍ في البُرج يحيا فيها ويقرأ ويكتب ويستقبل زواره، وقد أثث حجراته بأحسن الآثاث وفرشها بخير الرياش وزينها باللوحات. كما أنّ بيرسي قد استأجر برجاً لإقامة ولده ووريثه قريباً منه حتى يُشرف على تعليمه بنفسه.

هنري ستيوارت، أمير ويلز
من رسم آيزاك أوليفر
 غريب أنّ نجل جيمس الأول وولي عهده، هنري ستيوارت، قد أُعجِب برالي وكان من زواره، وقد جرت بينه وبين رالي مُحادثات كثيرة. وخصص رالي كتاباته عن تاريخ العالم لمنفعة هنري ستيوارت وتعليمه، الأمرُ الذي علّق عليه جيمس بالقول: "إنّه لمِنَ الوقاحة توبيخ الأمراء". كما كتب رالي مقالاتٍ بخصوص زواج هنري ستيوارت، الذي كان جيمس يرغب في تزويجه من أميرة إسبانية، وكان رالي مُعارضاً لذلك، كما كان الرأي العام في إنكلترا حينذاك متوجساً إزاء الإسبان، بعد التدخل الإسباني إبّان حُكم ماري تيودر، ومحاولة الأرمادا الإسبانية اجتياح إنكلترا في عهد إليزابِث الأولى، والحرب الأنكلو-إسبانية التي استمرت لوقتٍ طويل.

توفي هنري ستيوارت في 1612، فأعرض والتر رالي عن إكمال كتابه عن تاريخ العالم، وكان سنّه قد تقدّم، والقلق قد استبد به حيال مصير زوجته وذُريته من بعده.

الإلدرادو


رالي وابنه والتر
في عهد جيمس الأول، تجدد الحديث عن الإلدرادو، مدينة الذهب الأسطورية، واستبد الجشع بالملك، فرغب في إرسال بعثة لاستكشاف المكان الذي يُفترض أنّ الإلدرادو فيه. يُفترض أنّ الإلدرادو تقع في أمريكا الجنوبية، وقد كانت مُعظمها مُستعمراتٍ إسبانية في ذلك الوقت. أشار الناصحون على جيمس الأول بإرسال والتر رالي للبحث عن الإلدرادو، إذ أنّ له خبرة بالمنطقة، فقد سبق له الإبحار في فنزويلا وغيانا، حيث يُفترض أنّ الإلدرادو تقع، وذلك قبل أن يستكشف ساحل فرجينيا في أمريكا الشمالية. كما أنّ رالي قد ذكر منجم ذهبٍ كان قد رآه في غيانا عندما زارها، وقد كان منجم الذهب - الذي يُفترض أنّه يقود إلى إلدرادو - بُغية الملك حين أرسل رالي في بعثته.

بعد ثلاثة عشر عاماً من السجن، أُطلِق سراح رالي بشروط، فقد كان عليه أن يذهب إلى غيانا ويُحاول إيجاد إلدرادو، من دون التعرّض لأي سرّيةٍ إسبانية، أو التعدي على أراضٍ تخضع للسيادة الإسبانية، وإلّا نُفِذَ حُكم الإعدام الصادر بحقه.

كانت المُهمة شبه مُستحيلة، فمناطق النفوذ الإسباني في أمريكا الجنوبية متفرقة ومُتشعبة في الوقت عينه، إذ لا يعدم المرء أن يعثر على سرية في مكانٍ أو آخر، أو يدخل في منطقة نفوذ حصن أو ثكنة. كما أنّ وجود إلدورادو غير مُثبت. مع ذلك، الخروج من السجن خيرٌ من البقاء فيه، بفرض أنّه كان لدى رالي أي خيار. ويُقال إنّ رالي كان متحمساً لاثبات ولائه لملكه وبلاده.

اصطحب رالي معه في الحملة ابنه والتر، وقد كان شاباً يافعاً وقتها. وكان من ضمن مُساعديه صديقٌ له اسمه لورنس كيميس. وصلت البعثة إلى غيانا بسلام، لكنّها لم تعرف السلام بعد ذلك، إذ تاه رالي ورجاله، ولم يعثروا على منجم الذهب، كما استبد بهم المرض، وأُصيب رالي بحُمى شديدة. عندما اشتدت عليهم الخطوب، أرسل رالي ابنه والتر وصديقه كيميس بصحبة مجموعة من رجاله إلى مُستعمرة إسبانية، ففتحت حاميتها النيران عليهم، ووقع اشتباكٌ بين جنود رالي والحامية الإسبانية، سقط فيه والتر الابن قتيلاً. أبلغ لورنس كيميس والتر رالي بما حدث، وبمصير ولده، وطلب منه العفو، لكنّ رالي لم يَعفُ عنه، فبخّع نفسه عندئذٍ. تمرد بحارة رالي، فعاد إلى إنكلترا، رغم علمه بأنّه سيخضع للمُحاكمة. وبسبب مرضه، فقد بقي في بيته لبعض الوقت، وكتب رسالة اعتذار للملك جيمس الأول عن فشل الحملة - نشرها حفيده الوحيد فيليب رالي فيما بعد مع مجلداته الخمسة عن تاريخ العالم - ثُم أُعيد إلى البرج.

مقتل بطل إنكليزي

 

والتر رالي في 1598، من رسم ويليام سيغر
ويظهر في الخلفية خريطة قادش الإسبانية

رغم وفاة هنري ستيوارت، فإن جيمس الأول لم يصرف النظر عن فكرة زيجة إسبانية لنجله الثاني وولي عهده الجديد، تشارلز الأول. ورغم العداء الشديد بين إسبانيا وإنكلترا، والمؤامرة الرئيسية التي يُفترض أنّ إسبانيا قد دبرتها للخلاص من جيمس الأول، فقد كان جيمس مُهتماً بتطييب الخواطر الإسبانية، وميالاً إلى التأثر بنفوذ السفير الإسباني في بلاطه، الكونت كوندمار، الذي كان ممقوتاً في إنكلترا. كان لكوندمار تأثير كبير عليه، فكان يُطلعه على شؤون خاصة في البلاط.

كان الإسبان قد اعتبروا رالي قُرصاناً ومُعتدياً على المُمتلكات الإسبانية، وطالبوا إنكلترا برد اعتبارٍ وإلّا اعتُبِر الاشتباك إعلان حرب. كان جيمس يُحب أن يوصف بملك السلام، وليخفف من حدة كوندمار، فقد تبرأ تماماً من رالي وعمله، بل إنّه عرض مرسوم بعثة رالي - الذي يظهر فيه أنّه هو من أرسله - وفيه نهي عن التعرض للممتلكات الإسبانية. كان كوندمار يُطالب بإعدام رالي، ووفر له المرسوم ذريعة إضافية.

جيمس الأول ملك إنكلترا وإيرلندا،
والسادس من ملوك إسكتلندا
رأس مُحاكمة رالي فرانسِس بيكون، وهو أحد رجال عصر النهضة المشاهير كذلك. كان لفرانسس بيكون إسهامات علمية، ونظريات في التعليم، ومقالات شهيرة، وترجمات عديدة. كما أنّ نظرية شهيرة في الدراسات الأدبية الإنكليزية تقول إنّه المؤلف الحقيقي لأعمال شكسبير، بسبب نزعتها الإنسانوية التي تتفق مع رؤى بيكون وميوله. في أيام إليزابِث، كان بيكون من المُقربين من روبرت ديفرو، إيرل إسكس، كما كانت له صلاتٌ بشكسبير وإيرل ساوثهامبتُن، ويُفترض أنّ جماعة شكسبير وبربج المسرحية كانت ستلعب دوراً في تمرد ديفرو. مع ذلك، بتر بيكون كل صلاته بديفرو ومن حوله، وتخلى عنه في محنته. ثُم تحول إلى واحدٍ من أكبر مناصري جيمس الأول - ومُنافقيه - وأُعطي لقب فارس مع تتويجه. ثم ترقى في بلاطه حتى توصل إلى منصب المستشار، ونال مع المستشارية ألقاب نبالة بارون وفايكونت.

لم يكُن بيكون مُهتماً بسمعة إنكلترا، أو بالرأي العام الذي كان يرى والتر رالي بطلاً. حتى بين النبلاء، كانت الأحقاد على رالي قد خفّت. وكان الرأي السائد - وله ما يعضده في الواقع - أنّ إسبانيا تُريد الانتقام من رالي بسبب بلائه في الحروب الإنكلو-إسبانية، واستيلائه على سفن إسبانية عديدة، ومساهمته في الاستيلاء على ميناء قادش الإسباني. كان كوندمار - ومن ورائه إسبانيا - راغباً في إعدام والتر رالي، آخر فرسان الملكة إليزابِث الباقين على قيد الحياة، للانتقام لإسبانيا، ولتدمير الروح المعنوية الإنكليزية. ولم يكن جيمس الأول ليكترث بالروح المعنوية لإنكلترا، وقد اختار أن تكون سياسته مع إسبانيا سياسة استرضاء للنفس الأخير. فيما بعد، انقسم المؤرخون بشأن جيمس الأول، فمنهم من رأى أن اتباعه المذهب السلمي مهما كان الثمن أمرٌ حكيم، جعله محبوباً من الناس الذين تعبوا من الحروب، ومنهم من رأى أنّ جيمس الأول من أسباب الحرب الأهلية الإنكليزية التي اندلعت في عهد ولده تشارلز الأول، إذ أنّه أورث ولده استخفافاً بالبرلمان، وإيماناً بالحق الإلهي المُطلق للملك، وسياسات مالية متذبذبة. وفي أيام جيمس نفسه، كان يُقال: "إليزابِث كانت الملك، والآن، جيمس هو الملكة" "Rex fuit Elizabeth, nunc est regina Jacobus".

يُقول بعض المؤرخين إنّ عودة رالي إلى إنكلترا بعد فشل حملته، ورفضه الهرب عندما حاول مجموعة من مُحبيه تهريبه، دليل على سذاجته ونُبله. كان رالي في الستينات من عُمره، وقد عاش ردحاً من الزمن في بلاط الملكة إليزابِث، وشهد العديد من الدسائس والمحاكمات، ومع ذلك، عاد واثقاً بحكمة الملك، وبعدالة قضيته. رُبما لا يكون الأمر دليل سذاجة من رالي، وقد يكون أدرك مصيره منذ البداية، لكنّه لم يجبُن ولم يتخاذل، فالموت آخر علّةٍ يعتلها البدن العليل. كما أنّ هروبه من إنكلترا كان ليؤثر على زوجته الحبيبة إليزابِث وعلى ولده الباقي كارو، فيحرمهما من الممتلكات القليلة التي بقيت لهما، ويحرمهما من الحياة الكريمة، وعلى كُلٍ حالٍ، فقد كان في الستين من عمره، فأي حياةٍ بقيت وتستحق التضحية بزوجته وولده؟ وعندما يكون المرء في فخٍ مُميت كالذي وقع فيه رالي، فكيف يُمكِن أن يدّعي المرء وجود تصرف حكيم وآخر ساذج؟

 فرانسس بيكون، فايكونت ألبان
حكم بيكون على رالي بالإعدام، من دون إمكانية للاستئناف. وهكذا، اقتيد إلى ساحة الإعدام في ساحة القصر القديمة في قصر وستمنستر، في 29 أكتوبر 1618. كان يبلغ من العُمر وقتها خمسة وستين عاماً، على أرجح الروايات. استقبل رالي الموت برباطة جأش، وطلب النظر إلى الفأس التي سيُعدم بها، وقيل إنّه قال عندها: "هذه دواء صارم، لكنّها طبيب كُل علّة". وقيل إنّه قد خاطب جلاده على منصة الإعدام قائلاً: "إنّ بي حُمى تعتريني، فاقطع بسرعة قبل أن يقول خصومي إنّ رعدّة قد أخذتني خوفاً." وقيل إنّ آخر كلماته على الإطلاق كانت: "اضرِب يا رجل! اضرِب!".

ولتشويه سمعة رالي، خطّ بيكون مخطوطاً معروفاً سيء السمعة عنوانه: بيان تصرف سير والتر رالي، الفارس، ومسلكه في رحلته كما في رجعته، ودوافعه الحقيقية ومآربه التي جعلت جلالته يُوقع به الجزاء العادل، كما قد وقع. A Declaration of the Demeanor and Cariage of Sir Walter Raleigh, Knight, Aswell in His Voyage, as in and Sithence His Retume: And of the True Motiues and Inducements Which Occasioned His Maiestie to Proceed in Doing Iustice .Vpon Him, as Hath Bene Done واستخدم فيه شهادات من بحارة رالي المتمردين، ومنها قوله إنّه يتمنى أن يعود ولو بقبضة ذهبٍ واحدة للملك، ضد رالي. مع أنّ رغبة رالي في إيجاد الذهب للملك كانت تعفيه من تُهَمِ الخيانة. ونُسِبَت فكرة الحملة إلى رالي، وإلى رغبته في استعادة نفوذه، وتحقيق الثراء. ثُم ناقض بيكون نفسه بالقول إنّ رالي لم يكن متأكداً من وجود المنجم، وأنّه لم يأخذ معه ما يكفي من المعاول. كما أنّه قال إنّ إسبانيا تستعمر المنطقة لأكثر من عشرين عاماً، ولو كان ثمّة منجم هناك، لعرفت به. وقال إنّ إرساله قوة إلى المستعمرة الإسبانية كان عدواناً على الإسبان الأبرياء، ولم يأخذ بعين الاعتبار دفاع رالي بأنّ الإسبان هم من بدأوا بقتل الإنكليز الذين كانوا يتبادلون معهم السلع، فصار رد الفعل عدواناً في مخطوطه. واستخدم بيكون محاولة تهريب رالي ضده، كما اتهمه بادعاء المرض. فشل بيان بيكون، الذي نُشِر للناس، في تهدئة غضب الناس عليه وعلى جيمس وعلى إسبانيا.

رأى الناس أن رالي قد قُتِل مظلوماً، وأنّ جيمس الأول وبيكون قد قتلاه، وأنّ الإسبان ما زالوا يتحكمون في إنكلترا رغم أنّها قد فارقت الكاثوليكية وهزمت الأرمادا مُنذ زمن. صار رالي شهيداً. ولشجاعته وسِعة علمه وفروسيته وثباته على ولائه وحُسن بلائه ضد الإسبان في مواقع كثيرة، فقد اعتبره الناس مُعبراً عن الروح الإنكليزية الحقة - فيما كان جيمس الأول إسكتلندياً لا يأبه لكرامة إنكلترا. وحتى بعد وفاة جيمس الأول، بقيت كتابات تُدينه بسبب قتله بطلاً إنكليزياً من دون وجه حق. ورغم أنّ شُهرة فرانسس بيكون في زماننا ترجع أكثر لإسهاماته الفكرية، إلّا أنّ المؤرخين - مُنذ زمنه نفسه - قد حذروا من الوجه الآخر له، الذي كان أحد تجسدات الفساد والنفاق والأذى. خسر بيكون مناصبه وسُجِن لبعض الوقت بعد ثلاث سنوات من موت رالي، ثُم استعاد بعضاً من حظوته لدى جيمس الأول، قبل أن يموت هذا الأخير إثر مرضٍ قصير، في 1625.
الكونت دي كوندمار

تجنباً للغضب الشعبي بسبب إعدام رالي، هرب الكونت كوندمار من إنكلترا مُتذرعاً بالمرض، لكنّه أُعيد إليها بعد حينٍ بأمرٍ من مليكه الذي لم يكن يستطيع الاستغناء عن خدماته، فكوندمار كان أكثر الدبلوماسيين الإسبان معرفة بإنكلترا وخبرة بشؤونها، وقد ظل حتى وفاته الموجه الأكبر للسياسات الإسبانية في إنكلترا.

أُطلِق سراح هنري بروك، لورد كوبم، المتآمر الرئيسي في المؤامرة الرئيسية والشاهد الوحيد ضد رالي،  من بُرج لندن في العام نفسه، 1618، فخرج منه مُسناً ومريضاً. وتُوفي بعد عام في شقة متواضعة في أبرشية منريز القريبة من البُرج.

بعد إعدامه، حُنِط رأس رالي وأُعيد إلى أسرته لتدفنه، فاحتفظت به إليزابِث ثروكمورتن معها بقية حياتها، وقد توفيت وهي في الثمانين من عُمرها، في 1647.

لم تَتِم الزيجة الإسبانية، رغم كُل شيء، وتزوج تشارلز الأول من أميرة فرنسية: هنرييت ماري، ابنة هنري الرابع ملك فرنسا وماري مديتشي.

رسالة رالي إلى زوجته


كتب رالي هذه الرسالة قبل ثلاثة عشر عاماً من موته الفعلي، عندما حُكِم عليه بالإعدام وأُخِذ إلى البُرج تمهيداً لتنفيذه، وكان له من الأبناء ولدٌ واحد هو والتر. كان رالي يظن - وقت كتابة الرسالة - أنّ تلك ساعاته الأخيرة في الحياة الدُنيا:
ينبغي أن تصلّك الآن (يا زوجتي الحبيبة) كلماتي الأخيرة في هذه السطور الأخيرة. حُبي أرسُله لكِ لتحفظيه عندما أموت، ونُصحي لتتذكريه عندما لا أعود موجوداً. لن أُسبب لكِ حُزناً بإرادتي (يا حبيبتي بِس)، فدعي الأحزان تمضي إلى القبر معي وتُدفن في التُراب. ولأنها ليست مشيئة الرب أن أراكِ ثانيةً في هذه الحياة، فتحملي هذا بصبرٍ وبشجاعة كما هي شيمتك.
أولاً، أرسل لكِ كُل شُكرٍ يُمكِن أن يستوعبه قلبي، وكل ما يُمكِن أن تنطقه كلماتي لكدحك معي، والعناية التي أوليتني إياها، وقد لا تكون ثمرة جهودك كما أحببتِ، إلّا أنّ دينّي لك ليس أقلَ لهذا، لكنّني لن أردّه في هذا العالم.
ثانياً، أتضرّع إليك بالحُبِ الذي أحببتنيهُ حياً، لا تُخفي نفسك لأيامٍ كثيرة، ولكن اسعي لتعيني نفسك على حظِك البائس وعلى استعادة حق ولدك المسكين. حدادك لن ينفعني، فلستُ إلّا تُراباً.
ثالثاً، عليك أن تفهمي أنّ أرضي قدانتقلت لولدي بأمانة وحُسن نية، والمكتوب قد خُط في منتصف الصيف قبل اثني عشر شهراً. قريبي الأمين بريت يُمكنّه أن يشهد على هذا، ودولبيري كذلك، يمكنّه أن يتذكر شيئًا من هذا. وأثق في أنّ دمي سيروي شرهم، فإنّهم قد قتلوني بوحشية، فلن يسعوا كذلك إلى قتلك وولدك بالفقر المدقع.
إلى أي صديقٍ أوجهك، لا أدري، فكُل من كانوا أصدقائي نبذوني في وقتِ محنتي. وأتصور أنّ موتي كان مُقرراً مُنذ اليوم الأول. جمُ الأسفِ أنا، يعلم الرب، لأنّني فوجِئتُ بالموت فلا يُمكِنني أن أتركك في حالٍ أفضل. ويشهد الرب أنّني أردتُ لك كُل الأنبذة في ديواني أو كُل ما كُنت سأربح من بيعها، ونصف أغراضي، وكل جواهري، عدا قليلاً للولد، ولكن الرب قد منع كل قراراتي. إن الرب العظيم قد حكم كل شيء، لكن إذا عشتِ مَصونةً عن الحاجة، فلا تهتمي لشيء آخر، فما بقي إلّا متاع الغرور. أحبي الرب، واشرعي قريباً في تفويض أمرك إليه، فإنّك إن كدّدتِ فكرك وأجهدته في كُل هموم الدنيا، فلن يتبقى لكِ إلّا الأسى آخر الأمر.
علمي ابنك أن يحب الرب ويخافه وهو صغير بعد، فتكبر مخافة الرب معه، وعندها سيكون الرب زوجاً لك، وأباً له. زوجٌ وأبٌ لا يُمكِن أن يُؤخَذ منكما أبداً.
أدين لبايلي بمائتي جنيه، ولأدريان جيلبرت بستمائة. وفي جيرسي، هناك الكثير ممَن يدينوني. ثمن الأنبذة سيدفع ديوني، ومهما كان حالك أعطِ كل الفقراء هبةً. عندما أرحل، لا شك في أنّ الكثيرين سيسعون إليك، إذ أنّ العالم يحسبُ أنّني كُنت واسع الثراء. ولكن، احذري من ادعاءات الرجال، ومن عواطفهم لأنّها لا تدوم إلّا في قلوب الرجال الشُرفاء الفُضلاء، ولا يُمكِن أن يحل بكِ بؤسٌ أعظم في الحياة من أن تكوني ضحية، ومن ثم تُحتَقَرِي. ولا أقول هذا (يعلمُ الرب) لأصرفك عن الزواج، فسيكون خيراً لك، في نظر العالم وفي نظر الرب. أما أنا، فلم أعد لك، ولم تعودي لي. فقد قطع الموت صلتنا إرباً، وقد بترني الرب من هذا العالم، وبترك مني.
تذكري طفلك المسكين من أجل أبيه الذي اختارك وأحبك في أسعد أوقاته. احصلي على الرسائل (إن أمكنك هذا) التي كتبتها للوردات، ودافعت فيها عن حياتي. الرب شاهدي، فما أردتُ الحياة إلا لأجلك وولدك، ولكن الحق أنّني ازدريتُ نفسي لأنّني توسلتُ من أجلها. واعلمي (يا زوجتي العزيزة) أن ابنك ابن رجلٍ حق وجدير بالاعتبار رغم الموت وكل تشوهه وأشكاله القبيحة.
لا أستطيع أن أكتب كثيراً. يعلم الرب الصعوبة التي أسرق بها الوقت فيما ينام الآخرون، كما أنّ الوقت قد حان لأفصل أفكاري عن هذا العالم. توسلي جسدي الميت الذي حُرمتِ منه حياً، وادفنيه إمّا في شِربورن (إذا بقيت الأرض) أو في كنيسة إكستر، قرب أبي وامي. لا أستطيع أن أقول المزيد، الوقت والموت يدعوانني بعيداً.
الرب الأزلي، القوي، العليم. الرب القدير الذي هو الخير ذاته، الحياة الحقة والنور الحق، يحفظك ويحفظ ولدك، يرحمني ويعلمني أن أسامح مُطاردي ومن اتهموني ظُلماّ، ويرسلنا لنتقابل في مملكته المجيدة. يا زوجتي الحبيبة وداعاً. باركي ولدي الطيب. صلي من أجلي، وادعي ربي الرحيم أن يحفظكما.
كُتبَ باليد الفانية للذي كان زوجك بعض الوقت، لكنّه الآن قد نُزِع منك للأسف.

كُنت لك، لكنّني لم أعد ملكي الآن،
والتر رالي


هند هيثم (@HindHaitham) كاتبة من اليمن، وصاحبة مدونة تصدعت المرآة.

الاثنين، 6 أبريل 2015

حَجَر دافئ



حَجَر دافئ

تشى غفارا في رثاء والدته في وقت وجوده في الكونغو ١٩٦٥ 
ترجمة: دينا ربيع
عن الإنكليزية عن ترجمة عن الإسبانية لبلار أغيليرا

أتاني بالخبر كما يجب أن يؤتاه رجل في موقع المسئول كمثلي، كنت ممتناً لأنه لم يحاول أن يخفي قلقه واهتمامه، أما أنا ولم أُظهر قلقي فقد مرّ الأمر ببساطة. 
 كان عليّ أن أنتظر تأكيداً للخبر قبل أن أنتحب. هل يحق لي البكاء قليلاً؟ لا، لا، القائد ليس له مشاعر، لا يجب عليه أن يظهرها كعساكره على الأرجح.

"- اتصلت بي صديقة للعائلة لتخبرني بأن المرض قد اشتد، لكني لم أكن هناك ذلك اليوم.
-هل يعني ذلك أنها ستموت؟
-أظن ذلك.
-أخبرني لو عرفت أي شيء آخر.
-سأفعل لو حصل، لكني لا أرى أي أمل."

تركني رسول الموت ولم أحصّل تأكيداً. ما كان لي إلا أن أنتظر. وعندما أتاني الخبر اليقين فكرت أن أحتفي بحزني أو أخفيه، واخترتُ أن أخفيه.

شمس الصباح تصرع المطر وما من أمر غريب هنا فالشمس تعنّ بعد المطر كل يوم، تجعل من نفسها جسداً محسوساً وتبخّر العطب.

بعد الظهر يعود الدفق البلوري لمجرى النهر مرة أخرى، لم تكن الأمطار على الجبل غزيرة في ذلك اليوم.

"- قالوا لن تمطر من بعد 20 مايو حتى أكتوبر.
- هذا كلامهم، كثير منه غير صحيح."

هل كانت الطبيعة لتلتزم بمفكرة التقويم؟ لا أهتم.. لا أهتم بأي شيء على الإطلاق.. لامبالاة قسرية، وحرب بلا هدف.. ربما كان للحرب هدف، لكنه مبهم.
أياً كان هدفها فهو متعذّر المبلغ كجحيم سوريالي حيث الملل عقاب أبدي.

"يجب أن أجد طريقاً للخروج"، قلت لنفسي. ما أسهل أن تحل أمراً ما معقداً في عقلك، تؤسس ألف خطة، كل واحدة أكثر إغراءً لك من أختها، تختار أفضل ثلاث، تبسطهم وتلخصهم على الورق، وذا كل شيء.

أما هم، فلديهم بيروقراطية حكيمة لم أر مثلها من قبل، إنهم يخفون الملفات بدلاً من تجميعها والعمل عليها، قال بعض رجالي إنهم يدخنونها، يمكنهم تدخين أي ورقة ما دامت تحوي شيئاً ما.

كانت لحلولي العقلية المتخيلة هذه ميزة؛ يمكنني أن أغير ما لا يعجبني في خططي التالية، ولن يلحظ أحد شيئاً!

 أردت أن أدخن فسحبت غليوني الذي كان دائماً في جيبي، لم أضيّعه أبداً مثلما يفعل عساكري، كان مهماً جداً بالنسبة لي، يقطع المرء مسافات بين مسارات الدخان، يصنع الخطط، ويتخيل النصر بغير أن يبدو بعيداً كحلم، وإنما حقيقة ضبابية نادية بفعل خيوط الدخان، الغليون جليس صالح، كيف يضيعونه؛ هؤلاء الدواب!

يقتلهم العمل تعباً فلا يفكرون، وما الغليون إلا للفكر. يحلم المرء بمستقبل ليس له مسلك إلا في الضباب، أو بماضٍ بعيد يكاد ينساه لولا أن يرجع إليه في الدخان.

أشواق ملحّة تعنّ في سائر الجسد. أما عساكري فلهم أرجل قوية وعيون ثاقبة، لا يحتاجون للدخان، ولذلك يضيعونه، المرء لا يضيّع ما يحتاجه.

هل لدي شيء آخر كذا؟ آه، وشاح الشاش، أعطتني إياه في حال كُسِرت ذراعي فيكون حبل غرام واصل، ولكن ماذا لو كسرت جمجمتي؟ بحل بسيط ألفه حول رأسي لأربط فكيّ وأذهب به هكذا إلى مثواي الأخير، مخلِصاً حتى الموت.
أما إن تُركت ملقى على جانب الجبل أو التقطني أحدهم، فلا داعي لوشاح الشاش، سأتحلل على العشب، أو ربما سيعرضون جثتي في مجلة "الحياة" ونظرة الموت اليائسة ثابتة في عيوني في لحظة ذعر، كلنا نخاف، لماذا لا نعترف بهذا؟

تبعت درباً قديمة في خيوط الدخان إلى أن وصلت إلى أكثر جوانب خوفي حميمية، حيث الاتصال بالموت؛ هذا العدم المربك الذي لا يمكن تفسيره، مبهم، مهما اكتفينا كماركسيين لينينيين بوصفه -عن قناعتنا- بالعدم.. ما هو هذا اللاشيء؟ هو العدم .. الرد الأسهل والأكثر إقناعاً. أقفل عقلي وألبسه وشاح السواد في فضاء من النجوم البعيدة، هذا هو العدم عندي، نظير اللانهائية. ينجو فرد من الجنس البشري في التاريخ، هذا الشكل المدهش من الحياة، يخْلُد في الخصال والذكريات، إذا سرت رعشة في أوصالك عندما يؤتى على ذكر أنطونيو ماسيو فتلك حياة بعد العدم. 

لا أود أن أعيش في أولادي، إنهم لا يعرفونني، إنْ أنا إلا جسد غريب يعكر سلام وجودهم من وقت لآخر ويحول بين أمهم وبينهم. أتصور ابنتي الكبرى بشعر رمادي تهمس: "لم يكن أبوك ليفعل هذا أو ذلك." كطفل لأبي، كان لدي حس ثوري هائل، لم أكن أتوقع أنني سأتساءل عن مدى صحة فعل كذا أو كذا كأب، هل يجب على الأب أن يصيب دائما؟ لو كنت ابني لاختنقت بذكرى أبي، تلك التي تعنّ لي كعفريت طيلة الوقت. ليكن ولدي إنساناً فقط لا أفضل ولا أسوأ مني، إنساناً فقط. كم كنت ممتناً لوالدي لأنه حررني من عبء العواطف المحملة ببواعث إصلاح الذات، وتقويم السلوك، ووجع الضمير. وأما أمي.. تلك العجوز البائسة التي لم يكن قد وصل إلي تأكيداً رسمياً يؤهلني بعد لأبكيها.. كنت هائماً هكذا حين قاطعني أحد العساكر منشرحا بما معه من خبر: -"هل فقدت شيئاً ما؟" 
-"لاشيء."
 استرجعت اللاشيء الذي كان في استغراقي قبل أن يقاطعني بخبره ..
 -"راجع نفسك."
تحسست جيوب بدلتي، كل شيء في مكانه.
-"لاشيء."
-"وهذا الحجر؟ رأيته قبل هذا في حلقة مفاتيحك."
-"يا ضيعتي!"

صرعتني نفسي باللوم تلك الليلة، لا يضيِّع المرء ما يهمه، ما يحييه. هل يتنفس المرء الحياة حين لا تكون للأشياء عنده أهمية؟

نعم، ربما إذا كان جزرة، لا كائناً أخلاقياً له نشاط سلوكي وروحي متطور، هذا ما أعتقده على الأقل.

لسعتني رعشة الذكرى، دقَّقت في جيوبي يابساً بينما الماء  يسري من تحتي معتماً بتربة الجبل وسرِّه معا.

كان الغليون هناك، والأوراق، والوشاح الذي أعطتني زوجتي إياه، وموسع الشعب الهوائية*، والأقلام، والدفاتر في غطائها البلاستيكي، وعلبة الكبريت كذلك موجودة. ذابت الرعشة.

أحضرتُ معي تذكارين فقط إلى المعركة؛ الوشاح الذي أعطتني زوجتي إياه، وحلقة مفاتيح اعتيادية غير مكلفة بها فص صغير، أهدتنيها أمي. وانفك الحجر في جيبي.

هل يشفق النهر على مجراه في سريانه أم أنه ثائر عليه؟ لعله بلا مشاعر كالقائد، فاتر لا يبكي لأنه لا يجب عليه أن يبكي أو لأنه لا يستطيع. لا يحق له أن ينسى حتى في وسط المعركة، لا يلبث أن يتلبّسَه قناع الذكر الألفا. لا أعرف، كل ما أعرفه هو أنني أريد أمي، أريد أن أريح رأسي في حضنها بارز العظم، وأسمعها تسميني رفيقها القديم، وتربت على شعري بيدها الرثة كأني دمية صغيرة. تنبعث الطراوة من العينين والصوت، تَعْثُر في القنوات المكسورة التي لم تعد تحتملها إلى الأطراف أبداً، ترتعش اليد وتلامس بدلاً من أن تربّت، لكن لا أزال أستشعر الطراوة الأولى، فأشعر بالضآلة، فأشعر بالقوة. لن أطلب منها أن تسامحني فهي تعرف كل شيء، وتسميني "الرفيق القديم". 

-"هل تجده قوياً جداً؟ أنا أيضاً، كدت أقع أمس وأنا أقوم، لم يجفَّف جيداً على ما يبدو."
-"نعم، هذا التبغ سيء جداً، سأنظر في الطلب لعلهم يجلبون قَطْعاً يصلح للتدخين غداً."

يعنُّ للمرء أن يدخن، قليلاً، ولو هذا الغليون السائغ الوديع فقط...

*  *  *
* كان تشى غِفارا مصاباً بالربو.

دينا ربيع () كاتبة من مصر.

السبت، 20 سبتمبر 2014

غداً، يتحدث سارتر!


إدوارد سعيد
ترجمة: عبد الرحمن محمد

ظهر النص الأصلي في لندن ريفيو أوف بوكس،
 الأول من يونيو، عام 2000


كان جان بول سارتر، قديماً، المثقف الأشهر، وصار مؤخراً طي النسيان. بعد وفاته عام 1980 بقليل، هوجم لغضّه البصر عن الغولاغ السوفييتية، وحتى وجوديته الإنسانية صارت عرضة للسخرية بسبب تفاؤلها، وعنادها وحيويتها التي تجعلها في متناول "الجميع". صارت مسيرة سارتر –بالكامل-مصدر ازعاج لمن جرى تسميتهم بالفلاسفة الجدد، الذين لم تتجاوز منجزاتهم المتواضعة بعضاً من معاداة محمومة للشيوعية لأجل لفت الانتباه. وما بعد البنيويين، وما بعد الحداثيين الذين قفزوا إلى نرجسية تقنية متجهمة، على خلاف بيّن مع شعوبية سارتر وسياساته البطولية الجماهيرية.

تشعّب منجزات سارتر، كروائي، كاتب مقال، كاتب مسرحي، كاتب سير ذاتية، فيلسوف، مثقف سياسي وناشط ملتزم، كان باعثاً على النفور أكثر من الجذب. وبعدما كان الأكثر اقتباساً من بين "الأساتذة الفرنسيين"، صار، في غضون عشرين عاماً، الأقل قراءة وتحليلاً. مواقفه الشجاعة حيال الجزائر وفيتنام صارت منسية، وكذلك بات نشاطه الحقوقي نيابة عن المظلومين، وظهوره الجريء كماويّ راديكالي في مظاهرات الطلبة بباريس عام 1968، وكذلك بُعد نظره وتميّزه الأدبي (الذي نال عن كليهما جائزة نوبل للآداب، ورفضها). لقد صار نجما سابقا مُهاناً، عدا في العالم الأنجلو-أمريكي، الذي لم يؤخذ فيه بجدية قط كفيلسوف، بل قُرِئ دوماً بتعال، وعومل كروائي عَرَضي وكاتب مذكرات ظريف، شيوعي إنما ليس بما فيه الكفاية، ولا يتمتع بذات القدر من الشياكة والإقناع الذي يحظى به -الأقل موهبة منه بكثير-ألبير كامو.


ألبير كامو وسارتر

ثم، كما الحال مع الكثير من الأشياء الفرنسية، عادت الموضة أدراجها، أو هكذا بدا الأمر عن بُعد. وظهرت عدة كتب حوله، ومرة أخرى صار (ربما لبرهة قصيرة فحسب) موضوع حديث، إن لم يصبح بالضبط موضوعا للدراسة والتأمل. بالنسبة لجيلي، كان دوماً أحد أعظم الأبطال المثقفين للقرن العشرين، رجل كان نظره الثاقب وألمعيته الثقافية معين لا ينضب لأجل كل القضايا التقدمية في عصرنا، مع ذلك لم يكن أبدا معصوما من الخطأ أو نبياً. بالعكس، المثير للإعجاب بشأنه أنه كان يبذل مجهودا دوماً لفهم المواقف ولتقديم التضامن للقضايا السياسية عند الضرورة. لم يكن متعالياً أبداً أو مراوغاً، وحتى إن كان قد سقط في الخطأ أو المبالغات. كل شيء كتبه، تقريباً، كان مثيراً للاهتمام، لجرأته المطلقة، وتحرره (حتى ولو كان تحرراً في الإطالة) ولروحه السخية.

هنالك فحسب استثناء جليّ، أرغب في سرده هنا. إنني مطالب بذلك إثر اثنتين من المناقشات المثيرة، إن لم تكن المثبطة، حول زيارة سارتر لمصر في أوائل عام 1967، والتي ظهرت الشهر السابق في الأهرام-ويكلي. واحدة كانت مراجعة لكتاب برنارد-هنري ليفي الأحدث حول سارتر، والأخرى كانت مراجعة لتوثيق الراحل لطفي الخولي لزيارة سارتر إلى مصر (الخولي، مثقف مؤثر، كان ممن استضافوا سارتر في مصر). تجربتي البائسة مع سارتر كانت نقطة ضئيلة في حياة هائلة، ولكنها تستحق الذكر لمفارقاتها وحدّتها.

كان ذلك في أوائل يناير 1979، وكنت في بيتي بنيويورك أحضّر لإحدى محاضراتي. دقّ جرس الباب يعلن عن وصول برقية، وبينما أمزقها لاحظت باهتمام كونها من باريس. "أنت مدعو من Les Temps modernes (لو تمب مودرن) لحضور ندوة حول السلام في الشرق الأوسط، في باريس 13 و14 مارس هذا العام. نرجو الرد. سيمون دوبوفوار وجان بول سارتر."


سيمون دي بوفوار وسارتر

للوهلة الأولى ظننت أنها مزحة، من نوع ما. ربما كانت لتكون كذلك دعوة من كوزيما وريتشارد فاغنر للمجيء إلى بيروت، أو من  تي. إس. إليوت وفرجينيا وولف لقضاء عصرية في مكتب The Dial  (ذا دايل). استغرق الأمر مني يومين كي أتأكد من عدة أصدقاء، في نيويورك وباريس، أن الدعوة جادة. ووقتاً أقل من ذلك بكثير لأرسل إليهم موافقتي غير المشروطة (وكان هذا بعدما عرفت أنه الموداليتيه، كناية فرنسية عن تكاليف السفر، سوف تتحملها لو تمب مودرن بالكامل، الجريدة الشهرية التي أسسها سارتر بعد الحرب). وبعد أسابيع عرجتُ على باريس.

لعبت اللو-تمب-مودرن دوراً استثنائياً في الحياة الثقافية الفرنسية، والأوروبية، وفيما بعد، العالم-ثالثية. جمع سارتر حوله ثلة خلابة من العقول – ولم يكن جميعهم متفقاً معه – حوت جماعته بوفوار، بالطبع. وخصمه اللدود ريمون آرون، الفيلسوف المرموق وزميل الإيكول نورمال موريس مِرلو-بونتي. (الذي ترك المجلة بعد سنوات)، وميشيل ليريس، إثنوغرافي وباحث إفريقي ومنظّر شرس. وليس ثمة موضوع هام لم يكن لسارتر وجماعته تعليقٌ عليه، بما في ذلك الحرب العربية – الإسرائيلية عام 1967، التي أدّت إلى خروج إصدارٍ تذكاري ضخم للو-تمب-مودرن، الذي كان بدوره موضوعاً لمقالة رائعة كتبها إ.ف.ستون. وذاك فحسب جعل رحلتي لباريس سابقة مثيرة للاهتمام.

حين وصلت، وجدت خطاباً قصيراً من سارتر وبوفوار ينتظرني في الفندق الذي حجزت به، بالحي اللاتيني. "لأغراض أمنية." تقول الرسالة: "سوف ينعقد اللقاء بمنزل ميشيل فوكو." وبدافع الواجب، زودوني بعنوان، والعاشرة صباحاً اليوم التالي وصلت لشقة فوكو ووجدت عدداً من الناس – ليس بينهم سارتر-محتشدين. ولم يشرح أحد أبداً ما هي تلك "الأسباب الأمنية" الغامضة، التي أدّت إلى تغيير مكان الانعقاد. ونتيجة لهذا حامت أجواء مؤامراتية حول اجتماعنا. بوفوار كانت هناك بغطاء رأسها الشهير، تحاضر كل من سمع برحلتها القادمة إلى طهران مع كيت ميليت، حيث كانا يخططان للتظاهر ضد الشادور، وجدت الفكرة برمتها سخيفة ومتعالية، ورغم أنني كنت متحمساً لسماع ما تود بوفوار قوله. لاحظت أنها كانت مغرورة للغاية وبعيدة كل البعد عن أي جدل عقلاني حول هذا الموضوع. إلى جانب أنها رحلت بعد ساعة أو أكثر (قبل أن يصل سارتر مباشرة) ولم تُر ثانية.


ميشيل فوكو وسارتر

أوضح فوكو لي أنه لن يشارك بالندوة وأنه سوف يغادر رأساً لأجل نوبته البحثية اليومية في المكتبة القومية. سرّني أن أجد كتابي "بدايات" على رف مكتبته، التي كانت وفيرة بكم مرتّب جيداً من المواد، بما في ذلك المنشورات والجرائد. ورغم أننا دردشنا سوياً بودّ أدركت بعد مدة طويلة (في الواقع، عشر سنوات تقريباً بعد وفاته عام 1984) لماذا أعرض عن مناقشة أي شيء معي يتعلق بالصراع في الشرق الأوسط. في سيرهم الذاتية عنه، أفصح ديديه إريبون وجيمس ميلر أنه كان يدرّس في تونس عام 1967 وأنه قد غادر البلاد على عجل، بعد حرب يونيو بوقت قصير. علل فوكو مغادرته حينها بخشيته من أعمال الشغب المعادية للسامية والمعادية لإسرائيل، التي كانت ظاهرة شائعة في كل مدينة عربية أعقاب نكسة 67. ولكن زميلة تونسية له بجامعة تونس قسم الفلسفة أخبرتني بقصة مختلفة في بدايات التسعينيات: فوكو، قالت، تم ترحيله بسبب مغامراته المثلية مع الطلبة. ليس لدي فكرة بعد عن أي من الحكايتين هو الصحيح.

في ندوة باريس، أخبرني أنه قد عاد لتوه من إقامة مؤقتة في إيران مبعوثاً لصحيفة "الكوريري ديلا سيرا"، "مثير جداً، غريب جداً، جنوني!" هكذا أتذكر كلماته عن الأيام الأولى للثورة الإسلامية. أظن (ربما كنت مخطئاً) أنني سمعته يحكي عن تنكره في طهران مرتديا شعراً مستعاراً، رغم أنه بعد فترة قصيرة من ظهور مقالاته، نأى بنفسه فوراً عن كل ما له علاقة بإيران. وقد أخبرني "جيل دولوز" -في أواخر الثمانينيات-أنهما قد افترقا هو وفوكو بعدما كانا صديقين حميمين، بسبب خلافهما حول القضية الفلسطينية، كان فوكو مؤيدا لإسرائيل، أما دولوز فقد كان في صف الفلسطينيين.

من اليسار لليمين: جيل دولوز، سارتر، وفوكو

كانت شقة فوكو، رغم اتساعها ورحابتها، شديدة التقشف والبياض، مُعدّة لتناسب عزلة وصرامة الفيلسوف المفكر الذي كان يسكنها وحده كما يبدو، قليل من الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين كانوا هناك. من بينهم ميّزتُ إبراهيم الدقّاق، والذي صار صديقاً مقدسياً مقرّبا إليّ منذ ذلك الحين، نافز نزال، معلّم في بير زيت والذي عرفته بشكل سطحي فحسب في الولايات المتحدة الأمريكية، ويهوشوفات هارقابي، الخبير الإسرائيلي الرائد في الإلمام بـ "العقل العربي"، رئيس سابق للمخابرات العسكرية الإسرائيلية، طردته غولدا مائير لتسببه بوضع الجيش في حالة تأهب عن طريق الخطأ. قبل ذلك بثلاثة سنوات، كنا زملاء في مركز ستانفورد للدراسات المتقدمة في العلوم السلوكية، ولكن لم تنشأ بيننا علاقة ذات قدر. لقد كان تواصلنا دوماً مهذباً ولكنه بعيد كل البعد عن الوديّة. في باريس، كان يعمل على تغيير موقفه، ليصبح حمامة السلام الريادية لإسرائيل، رجل سوف يصبح فيما بعد مؤيداً صريحاً للـ "الدولة المنفصلة للفلسطينيين"، وقد كان يراه حلاً في صالح إسرائيل من الناحية الاستراتيجية. بقية المشاركين في الندوة كانوا غالباً من اليهود الإسرائيليين أو الفرنسيين، بينهم من كان شديد التدين ومن كان شديد العلمانية. رغم أنهم جميعاً كانوا صهاينة بشكل أو بآخر. منهم، إيلاي بن غال، بدا لي على معرفة وطيدة بسارتر: وقد عرفتُ فيما بعد أنه كان مرشداً لسارتر في رحلته السابقة إلى إسرائيل.

حينما ظهر الرجل الكبير أخيراً، كان متخلّفاً كثيراً عن الموعد المحدد، وقد صدمني كم كان عجوزاً ومتهالكاً. أتذكّر أنني قدّمت فوكو له – بسذاجة، ودون حاجة لذلك، وأذكر أن سارتر قد كان محاطاً، ومدعوما، ومدفوعاً باستمرار، بحاشية صغيرة من الناس الذين كان معتمداً عليهم بشكل كامل. وقد جعلوه بالمقابل التجارة الأساسية لحياتهم. من بينهم كانت ابنته بالتبني، التي كانت جلاده الأدبي في الوقت نفسه، كما علمت فيما بعد. وعلمت أنها كانت من أصول جزائرية. وأيضاً، كان هنالك بيار فيكتور، ماويّ سابق ومؤسس مشترك مع سارتر لحزب الـ"اليسار البروليتاري" –المنحلّ الآن-، الذي صار متديناً، و يهودي متشدد، كما افترضتُ. وقد أدهشني فيما بعد اكتشافي، الذي أطلعني عليه أحد المساعدين في المجلة أنه كان مصريا يهوديا يدعى "بينّي ليفي"، شقيق عادل رفعت (المولود باسم إدّي ليفي)، عادل رفعت ذاك كان أحد إثنين ممن اصطلح على تسميتهما الثنائي "محمود حسين"، الآخر كان بهجت النادي، مصري مسلم، وقد استخدما هذا الاسم المستعار "محمود حسين"، ليظهر به كتابهما "الصراع الطبقي في مصر"، (دراسة شهيرة نشرتها ماسبيرو). لم يبد أنه ثمة أي شيء مصري حيال فيكتور: لقد قدّم نفسه كمثقف يساري، نصف-مفكر، ونصف-محتال. والثالثة كانت هيلين فون بيولوف، امرأة ثلاثية اللغة عملت بالصحيفة وكانت تترجم كل شيء لسارتر. ورغم قضاءه بعض الوقت في ألمانيا وكونه لم يكتب فحسب عن هايدغر، بل عن فوكنر ودوس باسّوس كذلك، لا يجيد سارتر الألمانية ولا الإنكليزية. كانت امرأة ودوداً وأنيقة، بقت فون بيولوف بجانب سارتر طوال يوميّ الندوة، تهمس بترجمات فورية في أذنه. وعدا ذلك الفلسطيني من فيينا الذي لم يتكلم سوى العربية والألمانية، كان نقاشنا كله بالإنكليزية. أما عن القدر الذي فهمه سارتر فعلاً من هذا كله، فلن أعرف قط، ولكنني وغيري كنّا شديدي القلق نظراً لأن سارتر بقي صامتاً طوال اليوم الأول من الندوة. ميشيل كونتا، مؤرخ سارتر، كان هناك كذلك ولم يشارك.

ما اعتبرته تماشياً مع العادة الفرنسية، كان الغداء – والذي كان سيستغرق ساعة أو نحوها في الظروف العادية-عملية معقدة للغاية دارت أحداثها في مطعم قريب، ونظراً للأمطار الغزيرة، استغرق نقل الجميع بسيارات أجرة، والجلوس خلال وجبة من أربع مراحل، ثم إعادة الجميع إلى الشقة، ثلاث ساعات ونصف تقريباً. وهكذا استمرّت نقاشاتنا حول السلام، في اليوم الأول، مدة قصيرة نسبياً. حُددت محاور الحديث بواسطة فيكتور من دون استشارة أي شخص آخر، كما لاحظت. وقد شعرتُ مبكراً أنه كان يطبق قانونه الخاص، لما يتمتع به من مكانة لدى سارتر، (وقد كانا يتهامسان سوياً من حين لآخر)، ولما يتمتع به من ثقة عمياء بنفسه. قد كنا في صدد مناقشة: (1) أهمية معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل (كان ذلك في أيام كامب ديفيد)، (2) السلام بين إسرائيل والعالم العربي عموماً، و(3) المسألة الجوهرية المتعلقة بمستقبل العيش المشترك بين إسرائيل وما يحيطها من عرب. لم يكن أي من العرب سعداء حيال هذا. وشعرت أن قضية الفلسطينيين قد تم تجاوزها عمداً. وكان "دقاق" غير مرتاحاً لهذا الإعداد، وغادر بعد اليوم الأول.

بينما يمضي اليوم، اكتشفتُ شيئاً فشيئاً أن قدر كبير من المفاوضات كان قد حُسم من قبل كي تتجه الندوة إلى نتيجة معينة، وأي مشاركة من العرب كان قد تم التلاعب بها، وتقليصها من قبل كل تلك المعالجات والنوايا المسبقة حيال موضوع الندوة. وقد كدّرني نوعاً أنه قد تم استبعادي من كل هذا. ربما كنت ساذجاً جداً – متحمساً للغاية للذهاب لباريس ومقابلة سارتر، فكرتُ. كان ثمة حديث حول مشاركة إيمانويل ليفيناس، ولكن، مثلما وعدونا بحضور عدد من المثقفين المصريين، لم يظهر أبداً في الندوة. في أثناء ذلك سُجّلت نقاشاتنا ونُشرت لاحقاً في عدد خاص من لو تمب مودرن (سبتمبر 1979). وجدتُ هذا غير مرضياً البتة. كنا نعالج أرضاً مشتركة بشكل أو بآخر، دون أي لقاء فعلي بين العقول.

خيبت بوفوار أملي بشكل ذريع، حينما خرجت منتفضة من الحجرة في فقاعة متعالية من التحيزات المسبقة حول الإسلام والحجاب. في ذلك الوقت لم أندم على غيابها، ولكن فيما بعد صرت مقتنعاً أن وجودها كان ليجعل الأجواء أكثر حيوية. كان وجود سارتر سلبياً، على نحو غريب، متواضعاً، بلا أثر. لم يقل أي شيء على الاطلاق طوال ساعات. خلال الغداء، جلس قبالتي، بدا بائساً وعصياً على التواصل تماماً. بينما يسيل المايونيز والبيض على ذقنه. حاولتُ بِدء محادثة معه، ولكن دون جدوى. ربما كان أصم، ولكنني لست متأكداً. في كل الأحوال، بدا لي كنسخة شبحية من ذاته السابقة، بقبحه العتيد، غليونه وملابسه التي تتدلّى منه مثل ستائر على مسرح مهجور. كنتُ نشطاً جداً في مضمار السياسة الفلسطينية ذلك الوقت، في 1977 أصبحتُ عضواً في المجلس القومي، وخلال زياراتي المتكررة لبيروت (وكان ذلك أثناء الحرب الأهلية اللبنانية) كي أزور أمي، التقيت بعرفات بانتظام، وأغلب القادة الآخرين لذلك الزمان. عددته انجازاً عظيما إن استطعت حث سارتر على الادلاء بتصريح مؤازر للفلسطينيين، أثناء فترة زمنية "صاخبة" من حربنا الدامية مع إسرائيل.

خلال الغداء كنت واعياً بحضور بيار فكتور في الندوة كناظر محطة قطار، وكان سارتر نفسه أحد قطاراتها. كانا ينهضان سوياً من حين لآخر، بينما يقود فيكتور الرجل العجوز المتثاقل بعيداً، يحادثه عنوة، مستخلصاً منه إيماءة أو اثنتين، ثم يعودان. في الوقت ذاته، كان كل عضو من أعضاء الندوة يرغب في الإدلاء بدلوه، مما عرقل تطور النقاش كثيراً، رغم ذلك فقد ظهر لي سريعاً أن دعم إسرائيل (ما يسمّى اليوم التطبيع مع إسرائيل) كان موضوع اللقاء الحقيقي، وليس العرب أو الفلسطينيين.

العديد من العرب قبلي أمضوا وقتاً طويلاً في محاولات استمالة – أو اقناع-أحد المشاهير بعدالة قضيتهم، على أمل أن يتحول إلى آرنولد توينبي أو شين مكبرايد آخر. بعض من هؤلاء فعل. لقد توسّمت خيراً في سارتر بسبب موقفه من الجزائر، والذي كان أصعب عليه لكونه فرنسياً، من أن يكون له موقف منتقد لإسرائيل. وقد كنت مخطئا بالطبع.

كلما استمرت النقاشات الطنانة وغير المجزية، حاولت تذكير نفسي أنني قدمت إلى فرنسا كي أستمع إلى سارتر، وليس إلى آراء أناس أعرفهم من قبل ولن يقدموا لي أي جديد. لهذا قاطعت النقاش بوقاحة مبكراً في الأمسية وأصررت على أن نسمع من سارتر حالاً. وقد سبب هذا ذعراً بين حاشيته. انفضّت الندوة ثم عُقدت مشاورات عاجلة بينهم. وجدت الأمر برمته هزلياً ومثيراً للشفقة في الآن ذاته، خاصة أن سارتر لم يكن له دور في هذه المداولات. وأخيراً استدعانا بيار فكتور إلى الطاولة وقد كان بادياً عليه الحنق، وصرّح بنبرة منذرة تليق بسيناتور روماني: « Demain Sartre parlera » (غداً، يتحدّث سارتر). وهكذا قعدنا جميعاً في تأهب حثيث لليوم التالي.

أعدّ لنا سارتر شيئاً بلا شك: نص جاهز من ورقتين مطبوعتين – وأكتب هذا معتمداً على ذكرى عمرها عشرين عاماً-والنص أشاد بشجاعة أنور السادات مستخدماً أبشع التفاهات المبتذلة التي يمكن تخيلها. لا أتذكر الكثير من الكلمات التي قيلت في شأن الفلسطينيين، أو عن الأرض، أو عن الماضي المأساوي. وبلا شك، ليس ثمة أي ذكر لسياسة الاستيطان الاستعمارية الاسرائيلية، وهي شبيهة إلى حد كبير بالممارسات الفرنسية في الجزائر. ولم يتضمن من معلومات إلا ما قد تتضمنه إفادة لرويترز. من الواضح أن فيكتور – المفضوح – هو من كتبها ليخلّص سارتر من الورطة التي أوقعته فيها.

كنت محطماً للغاية فيما أكتشف أن هذا المثقف البطل صاحب المواقف القوية المؤازرة للمظلومين والمقموعين، قد استسلم في نهاية حياته لمرشد رجعي كفيكتور، وأنه لم يكن لديه أي شيء ليقدمه حول مسألة فلسطين سوى ثناء تقليدي وصحافي لقائد مصري قد نال بالفعل كل ما يمكن من احتفاء.

تقوقع سارتر في صمته لبقية اليوم، وبقي حال النقاشات على ما هو عليه. تذكرت قصة مزعومة حول ذهاب سارتر إلى روما منذ عشرين عاماً ليقابل فانون (حين كان يحتضر باللوكيميا) وحظي معه بحوار حارّ محتد حول المآسي الجزائرية لست عشرة ساعةَ متواصلة (كما زُعم)، حتى أجبرته سيمون على التوقف. هذا الـ"سارتر" قد راح للأبد.

فرانز فانون

وجدت أن مداخلة سارتر قد شُذّبت أكثر في نص الندوة الذي نُشر بعد أشهر قليلة. لا أدرى ما السبب، ولم أحاول أن أعرف. ورغم أنني لازلت أملك ذلك العدد من لو تمب مودرن حيث ظهرنا جميعاً، لم أستطع اجبار نفسي على قراءة إلا النذر اليسير منه، بدا لي شديد السطحية وعديم النفع. وهكذا ذهبت إلى باريس لأستمع إلى سارتر بنفس تلك الروح التي تمت بها دعوة سارتر إلى مصر، كي يُرى برفقة مثقفين عرب –ولكن النتائج كانت ذاتها، وقد كان لقائي به أسوأ نظراً لتلوثه بوجود وسيط مزعج هو بيار فيكتور، الذي اختفى بعدها في ظلمة قد استحقها تماماً. كنت حينها – هكذا فكّرت-مثل فابريس في بحثه عن معركة ووترلوو-غير موفّق ومحبط.

منذ أسابيع تعثّرت بحلقة من برنامج "بوييون دو كلتور" الأسبوعي الذي يقدمه برنار بيفو على التلفاز الفرنسي، ويُنقل إلى الولايات المتحدة بعدها بوقت قصير. الحلقة كانت عن إعادة التأهيل البطيئة التي يمر بها فكر سارتر بعد وفاته في مواجهة النقد المستمر لخطاياه السياسية. برنار هنري ليفي، شتّان بينه، وبين سارتر، من ناحية التفوق العقلي والشجاعة السياسية، كان هناك ليجلد بدراسته الفيلسوف الأكبر سناً. (أعترف أنني لم أقرأها، ولا أخطط لذلك قريباً.) "لم يكن سيئاً جداً حقاً." قال برنار هنري ليفي بتعال، "ثمة أشياء له، على كل حال، مثيرة للإعجاب دوماً، وصائبة سياسياً." كان ليفي يهدف إلى موازنة ما اعتبره نقداً عنيفاً لسارتر (الذي حوله بول جونسون لخطابة مثيرة للاشمئزاز) أن سارتر كان دوماً مخطئاً حيال الشيوعية. "على سبيل المثال"، أنشد ليفي، "سجل سارتر حيال إسرائيل كان نظيفاً: لم ينحرف أبداً وبقي مؤيداً مخلصاً للدولة اليهودية."

ميشيل فوكو وجان جينيه

لأسباب لن نعرفها قط، ظل سارتر على صهيونيته الأصولية. سواء كان ذلك بسبب خوفه من أن يوصم بمعاداة السامية، أو لأنه شعر بالذنب حيال الهولوكوست، أو لأنه لم يقدّر الفلسطينيين بشكل كاف، سواء الضحايا أو المحاربين ضد المظالم الإسرائيلية، أو لأي سبب آخر، لن أعرف أبداً. كل ما أعرفه أنه في شيبه مثلما كان دوماً وهو أصغر: خيبة أمل مريرة لكل عربي (غير جزائري) معجب به، بلا شك، كان برتراند راسل أفضل من سارتر، وفي سنواته الأخيرة (رغم كونه متأثراً - وكما يقول البعض - متلاعباً به بالكامل بواسطة زميل برينستون وصديقي السابق رالف شونمان) قد أخذ موقفاً انتقادياً من سياسات إسرائيل تجاه العرب. أظننا بحاجة إلى أن نفهم لماذا يميل الرجال العظماء وهم عجائز إلى الاستسلام لحيل الشبان الأصغر سناً، أو لقبضة المعتقد السياسي المتحجّر. إنها فكرة مثبطة، ولكنه ما حدث لسارتر. باستثناء الجزائر، لم يتحرّك لأجل القضية العربية، وسواء كان ذلك بسبب إسرائيل كلياً أو بسبب انعدام التعاطف-ثقافياً كان أو ربما دينياً-لا أستطيع القول. لقد كان مختلفاً في هذا الشأن عن صديقه ومعبوده جان جينيه*، الذي احتفى بعشقه الغريب والجياش للفلسطينيين بالاقامة المطوّلة معهم، وبكتاباته البديعة "أربع ساعات في صبرا وشاتيلا" و "الأسير العاشق."

مات سارتر في العام التالي للقائنا المُحبِط والقصير بباريس. أتذكر بوضوح كم حزنتُ على فراقه.

* ألف جان بول سارتر كتاب Saint Genet, comédien et martyr (القديس جينيه: الممثل والشهيد) للاحتفاء بعبقرية جينيه، وإثبات أن "العبقرية ليست هبة، بل ما يخترعه المرء من حلولٍ للخروج من الأحوال اليائسة".

نترجم هذه التعليقات (بتاريخ 22 يوليو 2000) على مقال إدوارد سعيد لرد سعيد عليها:

في منشوره حول لقاءه بجان-بول سارتر بباريس عام 1979، يتحدث إدوارد سعيد (لندن ريفيو أوف بوكس، الأول من يونيو) عن محادثة دارت بينه وبين فوكو حول تجنّب الأخير للنقاش معه حيال السياسة في الشرق الأوسط – وهذه الممانعة يرجعها سعيد إلى ميول فوكو المؤيدة لإسرائيل. ودليل سعيد على مأخذ فوكو من القضية الفلسطينية يتضمن "نميمة" سمعها من زميلة لفوكو بالجامعة التونسية عام 1967. زعم فوكو أنه غادر تونس ذلك العام مفزوعاً من أعمال الشغب المعادية لإسرائيل بعد حرب يونيو. ولكن مخبرة سعيد أرجحت أنه قد تم ترحيله بسبب نشاطاته المثلية مع الطلاب الشبان. يقول سعيد أنه ليس لديه أدنى فكرة عن أي من الروايتين هو الصحيح. وأنا كذلك لا أملك أدنى فكرة عن نية سعيد بالضبط من هذا الربط بين مثلية فوكو والصراع العربي الإسرائيلي. في آخر المقالة، يعلّق سعيد على "عشق جان جينيه الغريب للفلسطينيين". وهذا "العشق" قد لا يكون بهذه الغرابة، ولا العلاقة بين "النشاطات المثلية" والسياسة محيرة بهذا الشكل. لو أن الميول الجنسية قد أخذت بجدية أكبر هنا. يتأمل سعيد في شأن سارتر :"أظننا بحاجة إلى أن نفهم لماذا يميل الرجال العجائز من العظماء إلى الاستسلام.. لحيل الشباب". شخصياً، لن أستطيع التعبير عن المسألة بشكل أفضل، وسوف أضيف أننا بحاجة إلى أن نفهم التعقيدات والطرق المتناقضة التي تؤجج بها العلاقات الجنسية التعاطف السياسي (جينيه؟) أو تعوقه في حالات أخرى (فوكو؟).


ستيفن ماينارد
كينغستون، أونتاريو



يستشهد إدوارد سعيد بثلاثة من السير الذاتية الحديثة لفوكو، لم تذكر أيّها شيئا عن هروب فوكو العاجل من تونس بسبب السياسات في الشرق الأوسط، أو عن ترحيله بسبب نشاطاته المثلية مع الشبان. من المؤكد فرضياً، أن غضب فوكو تجاه الهولوكوست جعله محباً-للسامية، مثل سارتر. لماذا يعتبرها سعيد وصمة عار لكليهما؟ لقد أخفق في شرح أسبابه.


مايكل باين
ليوسبرغ، بنسلفانيا


يهرع كل من ستيفن ماينارد ومايكل بين في ردودهما للدفاع عن فوكو، دون أي حاجة لذلك. أولاً، يبدو أن "باين" غير قادر على التفرقة بين "حب-السامية"، الذي لم أناقشه قط، والدعم غير المشروط لإسرائيل الذي أبداه كلا من سارتر وفوكو. وهذا الدعم هو ما علّقت عليه (دون أن أصم أي منهما بالعار) الذي، نظراً لآرائهما حول قضايا مماثلة (الجزائر وفييتنام، مثلاً) بدا لي غريباً. إسرائيل ليست إلا دولة، على كل حال، وكثير من مواطنيها، مثل كل اليهود في كل مكان، قد انتقدوا سياساتها تجاه الفلسطينيين. الشيء الذي لم يفعله سارتر ولا فوكو، وقد تجرّأت على وصف ذلك بأنه مخالف لطبع الاثنين.

ثانياً، قلت ببساطة إنني لا أعرف إن كان فوكو قد غادر تونس لأنه تم ترحيله لنشاطاته المثلية أو لمشاعره الشخصية تجاه أعمال الشغب المعادية لإسرائيل عامي 1967-1968، يشير "باين" إلى اثنين من السير الذاتية الأحدث التي لا تورد أي من الاحتمالين. في الواقع، يقول ديدييه إريبون في "ميشيل فوكو (1991)" أن فوكو كان غير مرغوب به في البلاد، وأنه قد رفض العودة إلى فرنسا. يناقش ديفيد ماسي في "حيوات ميشيل فوكو (1993)" هذه المسألة في صفحات عدة، ولكنه يتحدث في صفحة 205 تحديداً عن "مراقبة الشرطة"، تهديدات، إلخ. وبحلول أكتوبر 1968، يقول، "كان واضحاً أنه لم يعد ممكناً" لفوكو البقاء في تونس.

كاتب سير ثالث يدعى جيمس ميلر، قد ناقش المسألة معي بينما يعد كتابه الخاص. وبخصوص ما يشير إليه ستيفن ماينارد من "نميمة"، كان ذلك حديثاً لبروفيسورة في الفلسفة وزميلة لفوكو في نفس القسم، وقد استعان من كتبوا سيره الذاتية بشهادتها. أكرر أنني لا أملك أي معرفة حول أي من هذه القصص هو الصحيح. ولم أكن أربط بين مثلية فوكو والسياسة في الشرق الأوسط. لقد صدف فحسب أن إثنين من الكتّاب الذين أقدّرهم بشدة، فوكو وجينيه، بينهما فرق شاسع في المواقف تجاه القضية الفلسطينية.

إدوارد سعيد
نيويورك
24 أغسطس 2000


عبد الرحمن محمد (@SaturnianVerses) كاتب ومترجم من مصر، وصاحب مدونة الطعم المرّ للأغاني.