الاثنين، 6 أبريل 2015

حَجَر دافئ



حَجَر دافئ

تشى غفارا في رثاء والدته في وقت وجوده في الكونغو ١٩٦٥ 
ترجمة: دينا ربيع
عن الإنكليزية عن ترجمة عن الإسبانية لبلار أغيليرا

أتاني بالخبر كما يجب أن يؤتاه رجل في موقع المسئول كمثلي، كنت ممتناً لأنه لم يحاول أن يخفي قلقه واهتمامه، أما أنا ولم أُظهر قلقي فقد مرّ الأمر ببساطة. 
 كان عليّ أن أنتظر تأكيداً للخبر قبل أن أنتحب. هل يحق لي البكاء قليلاً؟ لا، لا، القائد ليس له مشاعر، لا يجب عليه أن يظهرها كعساكره على الأرجح.

"- اتصلت بي صديقة للعائلة لتخبرني بأن المرض قد اشتد، لكني لم أكن هناك ذلك اليوم.
-هل يعني ذلك أنها ستموت؟
-أظن ذلك.
-أخبرني لو عرفت أي شيء آخر.
-سأفعل لو حصل، لكني لا أرى أي أمل."

تركني رسول الموت ولم أحصّل تأكيداً. ما كان لي إلا أن أنتظر. وعندما أتاني الخبر اليقين فكرت أن أحتفي بحزني أو أخفيه، واخترتُ أن أخفيه.

شمس الصباح تصرع المطر وما من أمر غريب هنا فالشمس تعنّ بعد المطر كل يوم، تجعل من نفسها جسداً محسوساً وتبخّر العطب.

بعد الظهر يعود الدفق البلوري لمجرى النهر مرة أخرى، لم تكن الأمطار على الجبل غزيرة في ذلك اليوم.

"- قالوا لن تمطر من بعد 20 مايو حتى أكتوبر.
- هذا كلامهم، كثير منه غير صحيح."

هل كانت الطبيعة لتلتزم بمفكرة التقويم؟ لا أهتم.. لا أهتم بأي شيء على الإطلاق.. لامبالاة قسرية، وحرب بلا هدف.. ربما كان للحرب هدف، لكنه مبهم.
أياً كان هدفها فهو متعذّر المبلغ كجحيم سوريالي حيث الملل عقاب أبدي.

"يجب أن أجد طريقاً للخروج"، قلت لنفسي. ما أسهل أن تحل أمراً ما معقداً في عقلك، تؤسس ألف خطة، كل واحدة أكثر إغراءً لك من أختها، تختار أفضل ثلاث، تبسطهم وتلخصهم على الورق، وذا كل شيء.

أما هم، فلديهم بيروقراطية حكيمة لم أر مثلها من قبل، إنهم يخفون الملفات بدلاً من تجميعها والعمل عليها، قال بعض رجالي إنهم يدخنونها، يمكنهم تدخين أي ورقة ما دامت تحوي شيئاً ما.

كانت لحلولي العقلية المتخيلة هذه ميزة؛ يمكنني أن أغير ما لا يعجبني في خططي التالية، ولن يلحظ أحد شيئاً!

 أردت أن أدخن فسحبت غليوني الذي كان دائماً في جيبي، لم أضيّعه أبداً مثلما يفعل عساكري، كان مهماً جداً بالنسبة لي، يقطع المرء مسافات بين مسارات الدخان، يصنع الخطط، ويتخيل النصر بغير أن يبدو بعيداً كحلم، وإنما حقيقة ضبابية نادية بفعل خيوط الدخان، الغليون جليس صالح، كيف يضيعونه؛ هؤلاء الدواب!

يقتلهم العمل تعباً فلا يفكرون، وما الغليون إلا للفكر. يحلم المرء بمستقبل ليس له مسلك إلا في الضباب، أو بماضٍ بعيد يكاد ينساه لولا أن يرجع إليه في الدخان.

أشواق ملحّة تعنّ في سائر الجسد. أما عساكري فلهم أرجل قوية وعيون ثاقبة، لا يحتاجون للدخان، ولذلك يضيعونه، المرء لا يضيّع ما يحتاجه.

هل لدي شيء آخر كذا؟ آه، وشاح الشاش، أعطتني إياه في حال كُسِرت ذراعي فيكون حبل غرام واصل، ولكن ماذا لو كسرت جمجمتي؟ بحل بسيط ألفه حول رأسي لأربط فكيّ وأذهب به هكذا إلى مثواي الأخير، مخلِصاً حتى الموت.
أما إن تُركت ملقى على جانب الجبل أو التقطني أحدهم، فلا داعي لوشاح الشاش، سأتحلل على العشب، أو ربما سيعرضون جثتي في مجلة "الحياة" ونظرة الموت اليائسة ثابتة في عيوني في لحظة ذعر، كلنا نخاف، لماذا لا نعترف بهذا؟

تبعت درباً قديمة في خيوط الدخان إلى أن وصلت إلى أكثر جوانب خوفي حميمية، حيث الاتصال بالموت؛ هذا العدم المربك الذي لا يمكن تفسيره، مبهم، مهما اكتفينا كماركسيين لينينيين بوصفه -عن قناعتنا- بالعدم.. ما هو هذا اللاشيء؟ هو العدم .. الرد الأسهل والأكثر إقناعاً. أقفل عقلي وألبسه وشاح السواد في فضاء من النجوم البعيدة، هذا هو العدم عندي، نظير اللانهائية. ينجو فرد من الجنس البشري في التاريخ، هذا الشكل المدهش من الحياة، يخْلُد في الخصال والذكريات، إذا سرت رعشة في أوصالك عندما يؤتى على ذكر أنطونيو ماسيو فتلك حياة بعد العدم. 

لا أود أن أعيش في أولادي، إنهم لا يعرفونني، إنْ أنا إلا جسد غريب يعكر سلام وجودهم من وقت لآخر ويحول بين أمهم وبينهم. أتصور ابنتي الكبرى بشعر رمادي تهمس: "لم يكن أبوك ليفعل هذا أو ذلك." كطفل لأبي، كان لدي حس ثوري هائل، لم أكن أتوقع أنني سأتساءل عن مدى صحة فعل كذا أو كذا كأب، هل يجب على الأب أن يصيب دائما؟ لو كنت ابني لاختنقت بذكرى أبي، تلك التي تعنّ لي كعفريت طيلة الوقت. ليكن ولدي إنساناً فقط لا أفضل ولا أسوأ مني، إنساناً فقط. كم كنت ممتناً لوالدي لأنه حررني من عبء العواطف المحملة ببواعث إصلاح الذات، وتقويم السلوك، ووجع الضمير. وأما أمي.. تلك العجوز البائسة التي لم يكن قد وصل إلي تأكيداً رسمياً يؤهلني بعد لأبكيها.. كنت هائماً هكذا حين قاطعني أحد العساكر منشرحا بما معه من خبر: -"هل فقدت شيئاً ما؟" 
-"لاشيء."
 استرجعت اللاشيء الذي كان في استغراقي قبل أن يقاطعني بخبره ..
 -"راجع نفسك."
تحسست جيوب بدلتي، كل شيء في مكانه.
-"لاشيء."
-"وهذا الحجر؟ رأيته قبل هذا في حلقة مفاتيحك."
-"يا ضيعتي!"

صرعتني نفسي باللوم تلك الليلة، لا يضيِّع المرء ما يهمه، ما يحييه. هل يتنفس المرء الحياة حين لا تكون للأشياء عنده أهمية؟

نعم، ربما إذا كان جزرة، لا كائناً أخلاقياً له نشاط سلوكي وروحي متطور، هذا ما أعتقده على الأقل.

لسعتني رعشة الذكرى، دقَّقت في جيوبي يابساً بينما الماء  يسري من تحتي معتماً بتربة الجبل وسرِّه معا.

كان الغليون هناك، والأوراق، والوشاح الذي أعطتني زوجتي إياه، وموسع الشعب الهوائية*، والأقلام، والدفاتر في غطائها البلاستيكي، وعلبة الكبريت كذلك موجودة. ذابت الرعشة.

أحضرتُ معي تذكارين فقط إلى المعركة؛ الوشاح الذي أعطتني زوجتي إياه، وحلقة مفاتيح اعتيادية غير مكلفة بها فص صغير، أهدتنيها أمي. وانفك الحجر في جيبي.

هل يشفق النهر على مجراه في سريانه أم أنه ثائر عليه؟ لعله بلا مشاعر كالقائد، فاتر لا يبكي لأنه لا يجب عليه أن يبكي أو لأنه لا يستطيع. لا يحق له أن ينسى حتى في وسط المعركة، لا يلبث أن يتلبّسَه قناع الذكر الألفا. لا أعرف، كل ما أعرفه هو أنني أريد أمي، أريد أن أريح رأسي في حضنها بارز العظم، وأسمعها تسميني رفيقها القديم، وتربت على شعري بيدها الرثة كأني دمية صغيرة. تنبعث الطراوة من العينين والصوت، تَعْثُر في القنوات المكسورة التي لم تعد تحتملها إلى الأطراف أبداً، ترتعش اليد وتلامس بدلاً من أن تربّت، لكن لا أزال أستشعر الطراوة الأولى، فأشعر بالضآلة، فأشعر بالقوة. لن أطلب منها أن تسامحني فهي تعرف كل شيء، وتسميني "الرفيق القديم". 

-"هل تجده قوياً جداً؟ أنا أيضاً، كدت أقع أمس وأنا أقوم، لم يجفَّف جيداً على ما يبدو."
-"نعم، هذا التبغ سيء جداً، سأنظر في الطلب لعلهم يجلبون قَطْعاً يصلح للتدخين غداً."

يعنُّ للمرء أن يدخن، قليلاً، ولو هذا الغليون السائغ الوديع فقط...

*  *  *
* كان تشى غِفارا مصاباً بالربو.

دينا ربيع () كاتبة من مصر.

ليست هناك تعليقات: