السبت، 20 سبتمبر 2014

غداً، يتحدث سارتر!


إدوارد سعيد
ترجمة: عبد الرحمن محمد

ظهر النص الأصلي في لندن ريفيو أوف بوكس،
 الأول من يونيو، عام 2000


كان جان بول سارتر، قديماً، المثقف الأشهر، وصار مؤخراً طي النسيان. بعد وفاته عام 1980 بقليل، هوجم لغضّه البصر عن الغولاغ السوفييتية، وحتى وجوديته الإنسانية صارت عرضة للسخرية بسبب تفاؤلها، وعنادها وحيويتها التي تجعلها في متناول "الجميع". صارت مسيرة سارتر –بالكامل-مصدر ازعاج لمن جرى تسميتهم بالفلاسفة الجدد، الذين لم تتجاوز منجزاتهم المتواضعة بعضاً من معاداة محمومة للشيوعية لأجل لفت الانتباه. وما بعد البنيويين، وما بعد الحداثيين الذين قفزوا إلى نرجسية تقنية متجهمة، على خلاف بيّن مع شعوبية سارتر وسياساته البطولية الجماهيرية.

تشعّب منجزات سارتر، كروائي، كاتب مقال، كاتب مسرحي، كاتب سير ذاتية، فيلسوف، مثقف سياسي وناشط ملتزم، كان باعثاً على النفور أكثر من الجذب. وبعدما كان الأكثر اقتباساً من بين "الأساتذة الفرنسيين"، صار، في غضون عشرين عاماً، الأقل قراءة وتحليلاً. مواقفه الشجاعة حيال الجزائر وفيتنام صارت منسية، وكذلك بات نشاطه الحقوقي نيابة عن المظلومين، وظهوره الجريء كماويّ راديكالي في مظاهرات الطلبة بباريس عام 1968، وكذلك بُعد نظره وتميّزه الأدبي (الذي نال عن كليهما جائزة نوبل للآداب، ورفضها). لقد صار نجما سابقا مُهاناً، عدا في العالم الأنجلو-أمريكي، الذي لم يؤخذ فيه بجدية قط كفيلسوف، بل قُرِئ دوماً بتعال، وعومل كروائي عَرَضي وكاتب مذكرات ظريف، شيوعي إنما ليس بما فيه الكفاية، ولا يتمتع بذات القدر من الشياكة والإقناع الذي يحظى به -الأقل موهبة منه بكثير-ألبير كامو.


ألبير كامو وسارتر

ثم، كما الحال مع الكثير من الأشياء الفرنسية، عادت الموضة أدراجها، أو هكذا بدا الأمر عن بُعد. وظهرت عدة كتب حوله، ومرة أخرى صار (ربما لبرهة قصيرة فحسب) موضوع حديث، إن لم يصبح بالضبط موضوعا للدراسة والتأمل. بالنسبة لجيلي، كان دوماً أحد أعظم الأبطال المثقفين للقرن العشرين، رجل كان نظره الثاقب وألمعيته الثقافية معين لا ينضب لأجل كل القضايا التقدمية في عصرنا، مع ذلك لم يكن أبدا معصوما من الخطأ أو نبياً. بالعكس، المثير للإعجاب بشأنه أنه كان يبذل مجهودا دوماً لفهم المواقف ولتقديم التضامن للقضايا السياسية عند الضرورة. لم يكن متعالياً أبداً أو مراوغاً، وحتى إن كان قد سقط في الخطأ أو المبالغات. كل شيء كتبه، تقريباً، كان مثيراً للاهتمام، لجرأته المطلقة، وتحرره (حتى ولو كان تحرراً في الإطالة) ولروحه السخية.

هنالك فحسب استثناء جليّ، أرغب في سرده هنا. إنني مطالب بذلك إثر اثنتين من المناقشات المثيرة، إن لم تكن المثبطة، حول زيارة سارتر لمصر في أوائل عام 1967، والتي ظهرت الشهر السابق في الأهرام-ويكلي. واحدة كانت مراجعة لكتاب برنارد-هنري ليفي الأحدث حول سارتر، والأخرى كانت مراجعة لتوثيق الراحل لطفي الخولي لزيارة سارتر إلى مصر (الخولي، مثقف مؤثر، كان ممن استضافوا سارتر في مصر). تجربتي البائسة مع سارتر كانت نقطة ضئيلة في حياة هائلة، ولكنها تستحق الذكر لمفارقاتها وحدّتها.

كان ذلك في أوائل يناير 1979، وكنت في بيتي بنيويورك أحضّر لإحدى محاضراتي. دقّ جرس الباب يعلن عن وصول برقية، وبينما أمزقها لاحظت باهتمام كونها من باريس. "أنت مدعو من Les Temps modernes (لو تمب مودرن) لحضور ندوة حول السلام في الشرق الأوسط، في باريس 13 و14 مارس هذا العام. نرجو الرد. سيمون دوبوفوار وجان بول سارتر."


سيمون دي بوفوار وسارتر

للوهلة الأولى ظننت أنها مزحة، من نوع ما. ربما كانت لتكون كذلك دعوة من كوزيما وريتشارد فاغنر للمجيء إلى بيروت، أو من  تي. إس. إليوت وفرجينيا وولف لقضاء عصرية في مكتب The Dial  (ذا دايل). استغرق الأمر مني يومين كي أتأكد من عدة أصدقاء، في نيويورك وباريس، أن الدعوة جادة. ووقتاً أقل من ذلك بكثير لأرسل إليهم موافقتي غير المشروطة (وكان هذا بعدما عرفت أنه الموداليتيه، كناية فرنسية عن تكاليف السفر، سوف تتحملها لو تمب مودرن بالكامل، الجريدة الشهرية التي أسسها سارتر بعد الحرب). وبعد أسابيع عرجتُ على باريس.

لعبت اللو-تمب-مودرن دوراً استثنائياً في الحياة الثقافية الفرنسية، والأوروبية، وفيما بعد، العالم-ثالثية. جمع سارتر حوله ثلة خلابة من العقول – ولم يكن جميعهم متفقاً معه – حوت جماعته بوفوار، بالطبع. وخصمه اللدود ريمون آرون، الفيلسوف المرموق وزميل الإيكول نورمال موريس مِرلو-بونتي. (الذي ترك المجلة بعد سنوات)، وميشيل ليريس، إثنوغرافي وباحث إفريقي ومنظّر شرس. وليس ثمة موضوع هام لم يكن لسارتر وجماعته تعليقٌ عليه، بما في ذلك الحرب العربية – الإسرائيلية عام 1967، التي أدّت إلى خروج إصدارٍ تذكاري ضخم للو-تمب-مودرن، الذي كان بدوره موضوعاً لمقالة رائعة كتبها إ.ف.ستون. وذاك فحسب جعل رحلتي لباريس سابقة مثيرة للاهتمام.

حين وصلت، وجدت خطاباً قصيراً من سارتر وبوفوار ينتظرني في الفندق الذي حجزت به، بالحي اللاتيني. "لأغراض أمنية." تقول الرسالة: "سوف ينعقد اللقاء بمنزل ميشيل فوكو." وبدافع الواجب، زودوني بعنوان، والعاشرة صباحاً اليوم التالي وصلت لشقة فوكو ووجدت عدداً من الناس – ليس بينهم سارتر-محتشدين. ولم يشرح أحد أبداً ما هي تلك "الأسباب الأمنية" الغامضة، التي أدّت إلى تغيير مكان الانعقاد. ونتيجة لهذا حامت أجواء مؤامراتية حول اجتماعنا. بوفوار كانت هناك بغطاء رأسها الشهير، تحاضر كل من سمع برحلتها القادمة إلى طهران مع كيت ميليت، حيث كانا يخططان للتظاهر ضد الشادور، وجدت الفكرة برمتها سخيفة ومتعالية، ورغم أنني كنت متحمساً لسماع ما تود بوفوار قوله. لاحظت أنها كانت مغرورة للغاية وبعيدة كل البعد عن أي جدل عقلاني حول هذا الموضوع. إلى جانب أنها رحلت بعد ساعة أو أكثر (قبل أن يصل سارتر مباشرة) ولم تُر ثانية.


ميشيل فوكو وسارتر

أوضح فوكو لي أنه لن يشارك بالندوة وأنه سوف يغادر رأساً لأجل نوبته البحثية اليومية في المكتبة القومية. سرّني أن أجد كتابي "بدايات" على رف مكتبته، التي كانت وفيرة بكم مرتّب جيداً من المواد، بما في ذلك المنشورات والجرائد. ورغم أننا دردشنا سوياً بودّ أدركت بعد مدة طويلة (في الواقع، عشر سنوات تقريباً بعد وفاته عام 1984) لماذا أعرض عن مناقشة أي شيء معي يتعلق بالصراع في الشرق الأوسط. في سيرهم الذاتية عنه، أفصح ديديه إريبون وجيمس ميلر أنه كان يدرّس في تونس عام 1967 وأنه قد غادر البلاد على عجل، بعد حرب يونيو بوقت قصير. علل فوكو مغادرته حينها بخشيته من أعمال الشغب المعادية للسامية والمعادية لإسرائيل، التي كانت ظاهرة شائعة في كل مدينة عربية أعقاب نكسة 67. ولكن زميلة تونسية له بجامعة تونس قسم الفلسفة أخبرتني بقصة مختلفة في بدايات التسعينيات: فوكو، قالت، تم ترحيله بسبب مغامراته المثلية مع الطلبة. ليس لدي فكرة بعد عن أي من الحكايتين هو الصحيح.

في ندوة باريس، أخبرني أنه قد عاد لتوه من إقامة مؤقتة في إيران مبعوثاً لصحيفة "الكوريري ديلا سيرا"، "مثير جداً، غريب جداً، جنوني!" هكذا أتذكر كلماته عن الأيام الأولى للثورة الإسلامية. أظن (ربما كنت مخطئاً) أنني سمعته يحكي عن تنكره في طهران مرتديا شعراً مستعاراً، رغم أنه بعد فترة قصيرة من ظهور مقالاته، نأى بنفسه فوراً عن كل ما له علاقة بإيران. وقد أخبرني "جيل دولوز" -في أواخر الثمانينيات-أنهما قد افترقا هو وفوكو بعدما كانا صديقين حميمين، بسبب خلافهما حول القضية الفلسطينية، كان فوكو مؤيدا لإسرائيل، أما دولوز فقد كان في صف الفلسطينيين.

من اليسار لليمين: جيل دولوز، سارتر، وفوكو

كانت شقة فوكو، رغم اتساعها ورحابتها، شديدة التقشف والبياض، مُعدّة لتناسب عزلة وصرامة الفيلسوف المفكر الذي كان يسكنها وحده كما يبدو، قليل من الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين كانوا هناك. من بينهم ميّزتُ إبراهيم الدقّاق، والذي صار صديقاً مقدسياً مقرّبا إليّ منذ ذلك الحين، نافز نزال، معلّم في بير زيت والذي عرفته بشكل سطحي فحسب في الولايات المتحدة الأمريكية، ويهوشوفات هارقابي، الخبير الإسرائيلي الرائد في الإلمام بـ "العقل العربي"، رئيس سابق للمخابرات العسكرية الإسرائيلية، طردته غولدا مائير لتسببه بوضع الجيش في حالة تأهب عن طريق الخطأ. قبل ذلك بثلاثة سنوات، كنا زملاء في مركز ستانفورد للدراسات المتقدمة في العلوم السلوكية، ولكن لم تنشأ بيننا علاقة ذات قدر. لقد كان تواصلنا دوماً مهذباً ولكنه بعيد كل البعد عن الوديّة. في باريس، كان يعمل على تغيير موقفه، ليصبح حمامة السلام الريادية لإسرائيل، رجل سوف يصبح فيما بعد مؤيداً صريحاً للـ "الدولة المنفصلة للفلسطينيين"، وقد كان يراه حلاً في صالح إسرائيل من الناحية الاستراتيجية. بقية المشاركين في الندوة كانوا غالباً من اليهود الإسرائيليين أو الفرنسيين، بينهم من كان شديد التدين ومن كان شديد العلمانية. رغم أنهم جميعاً كانوا صهاينة بشكل أو بآخر. منهم، إيلاي بن غال، بدا لي على معرفة وطيدة بسارتر: وقد عرفتُ فيما بعد أنه كان مرشداً لسارتر في رحلته السابقة إلى إسرائيل.

حينما ظهر الرجل الكبير أخيراً، كان متخلّفاً كثيراً عن الموعد المحدد، وقد صدمني كم كان عجوزاً ومتهالكاً. أتذكّر أنني قدّمت فوكو له – بسذاجة، ودون حاجة لذلك، وأذكر أن سارتر قد كان محاطاً، ومدعوما، ومدفوعاً باستمرار، بحاشية صغيرة من الناس الذين كان معتمداً عليهم بشكل كامل. وقد جعلوه بالمقابل التجارة الأساسية لحياتهم. من بينهم كانت ابنته بالتبني، التي كانت جلاده الأدبي في الوقت نفسه، كما علمت فيما بعد. وعلمت أنها كانت من أصول جزائرية. وأيضاً، كان هنالك بيار فيكتور، ماويّ سابق ومؤسس مشترك مع سارتر لحزب الـ"اليسار البروليتاري" –المنحلّ الآن-، الذي صار متديناً، و يهودي متشدد، كما افترضتُ. وقد أدهشني فيما بعد اكتشافي، الذي أطلعني عليه أحد المساعدين في المجلة أنه كان مصريا يهوديا يدعى "بينّي ليفي"، شقيق عادل رفعت (المولود باسم إدّي ليفي)، عادل رفعت ذاك كان أحد إثنين ممن اصطلح على تسميتهما الثنائي "محمود حسين"، الآخر كان بهجت النادي، مصري مسلم، وقد استخدما هذا الاسم المستعار "محمود حسين"، ليظهر به كتابهما "الصراع الطبقي في مصر"، (دراسة شهيرة نشرتها ماسبيرو). لم يبد أنه ثمة أي شيء مصري حيال فيكتور: لقد قدّم نفسه كمثقف يساري، نصف-مفكر، ونصف-محتال. والثالثة كانت هيلين فون بيولوف، امرأة ثلاثية اللغة عملت بالصحيفة وكانت تترجم كل شيء لسارتر. ورغم قضاءه بعض الوقت في ألمانيا وكونه لم يكتب فحسب عن هايدغر، بل عن فوكنر ودوس باسّوس كذلك، لا يجيد سارتر الألمانية ولا الإنكليزية. كانت امرأة ودوداً وأنيقة، بقت فون بيولوف بجانب سارتر طوال يوميّ الندوة، تهمس بترجمات فورية في أذنه. وعدا ذلك الفلسطيني من فيينا الذي لم يتكلم سوى العربية والألمانية، كان نقاشنا كله بالإنكليزية. أما عن القدر الذي فهمه سارتر فعلاً من هذا كله، فلن أعرف قط، ولكنني وغيري كنّا شديدي القلق نظراً لأن سارتر بقي صامتاً طوال اليوم الأول من الندوة. ميشيل كونتا، مؤرخ سارتر، كان هناك كذلك ولم يشارك.

ما اعتبرته تماشياً مع العادة الفرنسية، كان الغداء – والذي كان سيستغرق ساعة أو نحوها في الظروف العادية-عملية معقدة للغاية دارت أحداثها في مطعم قريب، ونظراً للأمطار الغزيرة، استغرق نقل الجميع بسيارات أجرة، والجلوس خلال وجبة من أربع مراحل، ثم إعادة الجميع إلى الشقة، ثلاث ساعات ونصف تقريباً. وهكذا استمرّت نقاشاتنا حول السلام، في اليوم الأول، مدة قصيرة نسبياً. حُددت محاور الحديث بواسطة فيكتور من دون استشارة أي شخص آخر، كما لاحظت. وقد شعرتُ مبكراً أنه كان يطبق قانونه الخاص، لما يتمتع به من مكانة لدى سارتر، (وقد كانا يتهامسان سوياً من حين لآخر)، ولما يتمتع به من ثقة عمياء بنفسه. قد كنا في صدد مناقشة: (1) أهمية معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل (كان ذلك في أيام كامب ديفيد)، (2) السلام بين إسرائيل والعالم العربي عموماً، و(3) المسألة الجوهرية المتعلقة بمستقبل العيش المشترك بين إسرائيل وما يحيطها من عرب. لم يكن أي من العرب سعداء حيال هذا. وشعرت أن قضية الفلسطينيين قد تم تجاوزها عمداً. وكان "دقاق" غير مرتاحاً لهذا الإعداد، وغادر بعد اليوم الأول.

بينما يمضي اليوم، اكتشفتُ شيئاً فشيئاً أن قدر كبير من المفاوضات كان قد حُسم من قبل كي تتجه الندوة إلى نتيجة معينة، وأي مشاركة من العرب كان قد تم التلاعب بها، وتقليصها من قبل كل تلك المعالجات والنوايا المسبقة حيال موضوع الندوة. وقد كدّرني نوعاً أنه قد تم استبعادي من كل هذا. ربما كنت ساذجاً جداً – متحمساً للغاية للذهاب لباريس ومقابلة سارتر، فكرتُ. كان ثمة حديث حول مشاركة إيمانويل ليفيناس، ولكن، مثلما وعدونا بحضور عدد من المثقفين المصريين، لم يظهر أبداً في الندوة. في أثناء ذلك سُجّلت نقاشاتنا ونُشرت لاحقاً في عدد خاص من لو تمب مودرن (سبتمبر 1979). وجدتُ هذا غير مرضياً البتة. كنا نعالج أرضاً مشتركة بشكل أو بآخر، دون أي لقاء فعلي بين العقول.

خيبت بوفوار أملي بشكل ذريع، حينما خرجت منتفضة من الحجرة في فقاعة متعالية من التحيزات المسبقة حول الإسلام والحجاب. في ذلك الوقت لم أندم على غيابها، ولكن فيما بعد صرت مقتنعاً أن وجودها كان ليجعل الأجواء أكثر حيوية. كان وجود سارتر سلبياً، على نحو غريب، متواضعاً، بلا أثر. لم يقل أي شيء على الاطلاق طوال ساعات. خلال الغداء، جلس قبالتي، بدا بائساً وعصياً على التواصل تماماً. بينما يسيل المايونيز والبيض على ذقنه. حاولتُ بِدء محادثة معه، ولكن دون جدوى. ربما كان أصم، ولكنني لست متأكداً. في كل الأحوال، بدا لي كنسخة شبحية من ذاته السابقة، بقبحه العتيد، غليونه وملابسه التي تتدلّى منه مثل ستائر على مسرح مهجور. كنتُ نشطاً جداً في مضمار السياسة الفلسطينية ذلك الوقت، في 1977 أصبحتُ عضواً في المجلس القومي، وخلال زياراتي المتكررة لبيروت (وكان ذلك أثناء الحرب الأهلية اللبنانية) كي أزور أمي، التقيت بعرفات بانتظام، وأغلب القادة الآخرين لذلك الزمان. عددته انجازاً عظيما إن استطعت حث سارتر على الادلاء بتصريح مؤازر للفلسطينيين، أثناء فترة زمنية "صاخبة" من حربنا الدامية مع إسرائيل.

خلال الغداء كنت واعياً بحضور بيار فكتور في الندوة كناظر محطة قطار، وكان سارتر نفسه أحد قطاراتها. كانا ينهضان سوياً من حين لآخر، بينما يقود فيكتور الرجل العجوز المتثاقل بعيداً، يحادثه عنوة، مستخلصاً منه إيماءة أو اثنتين، ثم يعودان. في الوقت ذاته، كان كل عضو من أعضاء الندوة يرغب في الإدلاء بدلوه، مما عرقل تطور النقاش كثيراً، رغم ذلك فقد ظهر لي سريعاً أن دعم إسرائيل (ما يسمّى اليوم التطبيع مع إسرائيل) كان موضوع اللقاء الحقيقي، وليس العرب أو الفلسطينيين.

العديد من العرب قبلي أمضوا وقتاً طويلاً في محاولات استمالة – أو اقناع-أحد المشاهير بعدالة قضيتهم، على أمل أن يتحول إلى آرنولد توينبي أو شين مكبرايد آخر. بعض من هؤلاء فعل. لقد توسّمت خيراً في سارتر بسبب موقفه من الجزائر، والذي كان أصعب عليه لكونه فرنسياً، من أن يكون له موقف منتقد لإسرائيل. وقد كنت مخطئا بالطبع.

كلما استمرت النقاشات الطنانة وغير المجزية، حاولت تذكير نفسي أنني قدمت إلى فرنسا كي أستمع إلى سارتر، وليس إلى آراء أناس أعرفهم من قبل ولن يقدموا لي أي جديد. لهذا قاطعت النقاش بوقاحة مبكراً في الأمسية وأصررت على أن نسمع من سارتر حالاً. وقد سبب هذا ذعراً بين حاشيته. انفضّت الندوة ثم عُقدت مشاورات عاجلة بينهم. وجدت الأمر برمته هزلياً ومثيراً للشفقة في الآن ذاته، خاصة أن سارتر لم يكن له دور في هذه المداولات. وأخيراً استدعانا بيار فكتور إلى الطاولة وقد كان بادياً عليه الحنق، وصرّح بنبرة منذرة تليق بسيناتور روماني: « Demain Sartre parlera » (غداً، يتحدّث سارتر). وهكذا قعدنا جميعاً في تأهب حثيث لليوم التالي.

أعدّ لنا سارتر شيئاً بلا شك: نص جاهز من ورقتين مطبوعتين – وأكتب هذا معتمداً على ذكرى عمرها عشرين عاماً-والنص أشاد بشجاعة أنور السادات مستخدماً أبشع التفاهات المبتذلة التي يمكن تخيلها. لا أتذكر الكثير من الكلمات التي قيلت في شأن الفلسطينيين، أو عن الأرض، أو عن الماضي المأساوي. وبلا شك، ليس ثمة أي ذكر لسياسة الاستيطان الاستعمارية الاسرائيلية، وهي شبيهة إلى حد كبير بالممارسات الفرنسية في الجزائر. ولم يتضمن من معلومات إلا ما قد تتضمنه إفادة لرويترز. من الواضح أن فيكتور – المفضوح – هو من كتبها ليخلّص سارتر من الورطة التي أوقعته فيها.

كنت محطماً للغاية فيما أكتشف أن هذا المثقف البطل صاحب المواقف القوية المؤازرة للمظلومين والمقموعين، قد استسلم في نهاية حياته لمرشد رجعي كفيكتور، وأنه لم يكن لديه أي شيء ليقدمه حول مسألة فلسطين سوى ثناء تقليدي وصحافي لقائد مصري قد نال بالفعل كل ما يمكن من احتفاء.

تقوقع سارتر في صمته لبقية اليوم، وبقي حال النقاشات على ما هو عليه. تذكرت قصة مزعومة حول ذهاب سارتر إلى روما منذ عشرين عاماً ليقابل فانون (حين كان يحتضر باللوكيميا) وحظي معه بحوار حارّ محتد حول المآسي الجزائرية لست عشرة ساعةَ متواصلة (كما زُعم)، حتى أجبرته سيمون على التوقف. هذا الـ"سارتر" قد راح للأبد.

فرانز فانون

وجدت أن مداخلة سارتر قد شُذّبت أكثر في نص الندوة الذي نُشر بعد أشهر قليلة. لا أدرى ما السبب، ولم أحاول أن أعرف. ورغم أنني لازلت أملك ذلك العدد من لو تمب مودرن حيث ظهرنا جميعاً، لم أستطع اجبار نفسي على قراءة إلا النذر اليسير منه، بدا لي شديد السطحية وعديم النفع. وهكذا ذهبت إلى باريس لأستمع إلى سارتر بنفس تلك الروح التي تمت بها دعوة سارتر إلى مصر، كي يُرى برفقة مثقفين عرب –ولكن النتائج كانت ذاتها، وقد كان لقائي به أسوأ نظراً لتلوثه بوجود وسيط مزعج هو بيار فيكتور، الذي اختفى بعدها في ظلمة قد استحقها تماماً. كنت حينها – هكذا فكّرت-مثل فابريس في بحثه عن معركة ووترلوو-غير موفّق ومحبط.

منذ أسابيع تعثّرت بحلقة من برنامج "بوييون دو كلتور" الأسبوعي الذي يقدمه برنار بيفو على التلفاز الفرنسي، ويُنقل إلى الولايات المتحدة بعدها بوقت قصير. الحلقة كانت عن إعادة التأهيل البطيئة التي يمر بها فكر سارتر بعد وفاته في مواجهة النقد المستمر لخطاياه السياسية. برنار هنري ليفي، شتّان بينه، وبين سارتر، من ناحية التفوق العقلي والشجاعة السياسية، كان هناك ليجلد بدراسته الفيلسوف الأكبر سناً. (أعترف أنني لم أقرأها، ولا أخطط لذلك قريباً.) "لم يكن سيئاً جداً حقاً." قال برنار هنري ليفي بتعال، "ثمة أشياء له، على كل حال، مثيرة للإعجاب دوماً، وصائبة سياسياً." كان ليفي يهدف إلى موازنة ما اعتبره نقداً عنيفاً لسارتر (الذي حوله بول جونسون لخطابة مثيرة للاشمئزاز) أن سارتر كان دوماً مخطئاً حيال الشيوعية. "على سبيل المثال"، أنشد ليفي، "سجل سارتر حيال إسرائيل كان نظيفاً: لم ينحرف أبداً وبقي مؤيداً مخلصاً للدولة اليهودية."

ميشيل فوكو وجان جينيه

لأسباب لن نعرفها قط، ظل سارتر على صهيونيته الأصولية. سواء كان ذلك بسبب خوفه من أن يوصم بمعاداة السامية، أو لأنه شعر بالذنب حيال الهولوكوست، أو لأنه لم يقدّر الفلسطينيين بشكل كاف، سواء الضحايا أو المحاربين ضد المظالم الإسرائيلية، أو لأي سبب آخر، لن أعرف أبداً. كل ما أعرفه أنه في شيبه مثلما كان دوماً وهو أصغر: خيبة أمل مريرة لكل عربي (غير جزائري) معجب به، بلا شك، كان برتراند راسل أفضل من سارتر، وفي سنواته الأخيرة (رغم كونه متأثراً - وكما يقول البعض - متلاعباً به بالكامل بواسطة زميل برينستون وصديقي السابق رالف شونمان) قد أخذ موقفاً انتقادياً من سياسات إسرائيل تجاه العرب. أظننا بحاجة إلى أن نفهم لماذا يميل الرجال العظماء وهم عجائز إلى الاستسلام لحيل الشبان الأصغر سناً، أو لقبضة المعتقد السياسي المتحجّر. إنها فكرة مثبطة، ولكنه ما حدث لسارتر. باستثناء الجزائر، لم يتحرّك لأجل القضية العربية، وسواء كان ذلك بسبب إسرائيل كلياً أو بسبب انعدام التعاطف-ثقافياً كان أو ربما دينياً-لا أستطيع القول. لقد كان مختلفاً في هذا الشأن عن صديقه ومعبوده جان جينيه*، الذي احتفى بعشقه الغريب والجياش للفلسطينيين بالاقامة المطوّلة معهم، وبكتاباته البديعة "أربع ساعات في صبرا وشاتيلا" و "الأسير العاشق."

مات سارتر في العام التالي للقائنا المُحبِط والقصير بباريس. أتذكر بوضوح كم حزنتُ على فراقه.

* ألف جان بول سارتر كتاب Saint Genet, comédien et martyr (القديس جينيه: الممثل والشهيد) للاحتفاء بعبقرية جينيه، وإثبات أن "العبقرية ليست هبة، بل ما يخترعه المرء من حلولٍ للخروج من الأحوال اليائسة".

نترجم هذه التعليقات (بتاريخ 22 يوليو 2000) على مقال إدوارد سعيد لرد سعيد عليها:

في منشوره حول لقاءه بجان-بول سارتر بباريس عام 1979، يتحدث إدوارد سعيد (لندن ريفيو أوف بوكس، الأول من يونيو) عن محادثة دارت بينه وبين فوكو حول تجنّب الأخير للنقاش معه حيال السياسة في الشرق الأوسط – وهذه الممانعة يرجعها سعيد إلى ميول فوكو المؤيدة لإسرائيل. ودليل سعيد على مأخذ فوكو من القضية الفلسطينية يتضمن "نميمة" سمعها من زميلة لفوكو بالجامعة التونسية عام 1967. زعم فوكو أنه غادر تونس ذلك العام مفزوعاً من أعمال الشغب المعادية لإسرائيل بعد حرب يونيو. ولكن مخبرة سعيد أرجحت أنه قد تم ترحيله بسبب نشاطاته المثلية مع الطلاب الشبان. يقول سعيد أنه ليس لديه أدنى فكرة عن أي من الروايتين هو الصحيح. وأنا كذلك لا أملك أدنى فكرة عن نية سعيد بالضبط من هذا الربط بين مثلية فوكو والصراع العربي الإسرائيلي. في آخر المقالة، يعلّق سعيد على "عشق جان جينيه الغريب للفلسطينيين". وهذا "العشق" قد لا يكون بهذه الغرابة، ولا العلاقة بين "النشاطات المثلية" والسياسة محيرة بهذا الشكل. لو أن الميول الجنسية قد أخذت بجدية أكبر هنا. يتأمل سعيد في شأن سارتر :"أظننا بحاجة إلى أن نفهم لماذا يميل الرجال العجائز من العظماء إلى الاستسلام.. لحيل الشباب". شخصياً، لن أستطيع التعبير عن المسألة بشكل أفضل، وسوف أضيف أننا بحاجة إلى أن نفهم التعقيدات والطرق المتناقضة التي تؤجج بها العلاقات الجنسية التعاطف السياسي (جينيه؟) أو تعوقه في حالات أخرى (فوكو؟).


ستيفن ماينارد
كينغستون، أونتاريو



يستشهد إدوارد سعيد بثلاثة من السير الذاتية الحديثة لفوكو، لم تذكر أيّها شيئا عن هروب فوكو العاجل من تونس بسبب السياسات في الشرق الأوسط، أو عن ترحيله بسبب نشاطاته المثلية مع الشبان. من المؤكد فرضياً، أن غضب فوكو تجاه الهولوكوست جعله محباً-للسامية، مثل سارتر. لماذا يعتبرها سعيد وصمة عار لكليهما؟ لقد أخفق في شرح أسبابه.


مايكل باين
ليوسبرغ، بنسلفانيا


يهرع كل من ستيفن ماينارد ومايكل بين في ردودهما للدفاع عن فوكو، دون أي حاجة لذلك. أولاً، يبدو أن "باين" غير قادر على التفرقة بين "حب-السامية"، الذي لم أناقشه قط، والدعم غير المشروط لإسرائيل الذي أبداه كلا من سارتر وفوكو. وهذا الدعم هو ما علّقت عليه (دون أن أصم أي منهما بالعار) الذي، نظراً لآرائهما حول قضايا مماثلة (الجزائر وفييتنام، مثلاً) بدا لي غريباً. إسرائيل ليست إلا دولة، على كل حال، وكثير من مواطنيها، مثل كل اليهود في كل مكان، قد انتقدوا سياساتها تجاه الفلسطينيين. الشيء الذي لم يفعله سارتر ولا فوكو، وقد تجرّأت على وصف ذلك بأنه مخالف لطبع الاثنين.

ثانياً، قلت ببساطة إنني لا أعرف إن كان فوكو قد غادر تونس لأنه تم ترحيله لنشاطاته المثلية أو لمشاعره الشخصية تجاه أعمال الشغب المعادية لإسرائيل عامي 1967-1968، يشير "باين" إلى اثنين من السير الذاتية الأحدث التي لا تورد أي من الاحتمالين. في الواقع، يقول ديدييه إريبون في "ميشيل فوكو (1991)" أن فوكو كان غير مرغوب به في البلاد، وأنه قد رفض العودة إلى فرنسا. يناقش ديفيد ماسي في "حيوات ميشيل فوكو (1993)" هذه المسألة في صفحات عدة، ولكنه يتحدث في صفحة 205 تحديداً عن "مراقبة الشرطة"، تهديدات، إلخ. وبحلول أكتوبر 1968، يقول، "كان واضحاً أنه لم يعد ممكناً" لفوكو البقاء في تونس.

كاتب سير ثالث يدعى جيمس ميلر، قد ناقش المسألة معي بينما يعد كتابه الخاص. وبخصوص ما يشير إليه ستيفن ماينارد من "نميمة"، كان ذلك حديثاً لبروفيسورة في الفلسفة وزميلة لفوكو في نفس القسم، وقد استعان من كتبوا سيره الذاتية بشهادتها. أكرر أنني لا أملك أي معرفة حول أي من هذه القصص هو الصحيح. ولم أكن أربط بين مثلية فوكو والسياسة في الشرق الأوسط. لقد صدف فحسب أن إثنين من الكتّاب الذين أقدّرهم بشدة، فوكو وجينيه، بينهما فرق شاسع في المواقف تجاه القضية الفلسطينية.

إدوارد سعيد
نيويورك
24 أغسطس 2000


عبد الرحمن محمد (@SaturnianVerses) كاتب ومترجم من مصر، وصاحب مدونة الطعم المرّ للأغاني.

ليست هناك تعليقات: