بورتريه ديكارت المنسوب إلى فرانز هولس
بروميثيوس
عادة ما يكون الفلاسفة عرضة للاتهام بالكثير من الخطايا. أكثرهم نفوذا، أي أفلاطون وأرسطو وجون لوك وشركاءهم، ما يزالون يجتذبون حشدا من الأعداء الذين ينقّبون في أعمالهم، بحثا عن أخطاء أو لشجب تأثيرهم على الفكر الغربي.
وفي أيّامنا هذه، فإن رينيه ديكارت، المفكّر الفرنسي من القرن السابع عشر والذي كثيرا ما يوصف بأنه مؤسّس الفلسفة الحديثة، يُعتبر كيس اللكم المفضّل.
ومن علامات اتساع نطاق تأثير هذا الرجل أنه صنع لنفسه الكثير من الأعداء، من بينهم علماء نفس ومدافعون عن حقوق النساء وعلماء أحياء ومدافعون عن حقوق الحيوان.
وكانت هناك ضربات أخرى وُجّهت له في الآونة الأخيرة أيضا. فطبيب الأعصاب أنطونيو داماسيو، في تقريره بعنوان "خطأ ديكارت"، هاجم فصل ديكارت العقل عن العاطفة. وفي تاريخ حقوق الحيوان، يوصف ديكارت باعتباره شخصا شرّيرا لادعائه أن الحيوانات ليست أكثر من مكائن متطوّرة وليس لها القدرة على الشعور بالألم. وقد كتب بمرح إلى صديق عام 1638 يقول: فتحت صدر أرنب حيّ ثم أزلت الضلوع لأرى القلب وجذع الشريان الأورطي".
أما بالنسبة للبيئة، فإن التصوّر الديكارتي عن قصّة الإنسان "يسمح لنا بأن نعتقد بأننا منفصلون عن الأرض"، كما يقول آل غور في كتابه الصادر عام 1992 بعنوان "الأرض في الميزان". بل إن بعض المفكّرين الماركسيين يعزون اغتراب العامل في ظلّ الرأسمالية إلى تأثير ديكارت.
في كتابه الجديد والصغير بعنوان "الفيلسوف والكاهن والرسّام: بورتريه لديكارت"، يحاول الكاتب ستيفن نادلر أن يضع ديكارت في زمانه ومكانه الصحيحين ويوضّح الأسباب التي جعلت منه النجم والمفكّر الساطع في زمنه، أو بعبارته هو - أي المؤلّف - أعظم فيلسوف في قرن مليء بالفلاسفة.
عَرْض نادلر لحياة ديكارت يبدأ بلوحة. فأشهر صورة لهذا الفيلسوف تُعزى تاريخيّا للرسّام الهولندي العظيم فرانز هولس، مع انه لا يوجد دليل يُثبت أن الاثنين التقيا. كان هولس ملتزما بإنجاز لوحات لرعاته فقط. ولم يكن هؤلاء مفكّرين، بل رجال أعمال أثرياء في الغالب.
هل من رسم هذه الصورة هو هولس فعلا؟ وإذا كان هو من رسمها، فهل من يظهر فيها هو ديكارت حقّا؟ وإذا كان هو، فأين التقيا وكيف؟
المؤلّف يبحث عن إجابات لهذه الأسئلة وغيرها من خلال إعادة بناء حياة ديكارت في هولندا التي أقام فيها طويلا ونشر عددا من كتبه المهمّة. وبحسب نادلر، فإن ديكارت ينتمي للثقافة الفكرية للعصر الذهبيّ الهولنديّ بقدر ما ينتمي لتاريخ الفلسفة الغربية.
ولكي يتحقّق من قصّة البورتريه، يباشر بسرد ثلاث قصص: قصّة ديكارت وقصّة الرسّام هولس وقصّة الكاهن الكاثوليكي اوغستين بولمارت الذي كلّف الفنّان برسم اللوحة.
هولس في البورتريه رسم شيئا بسيطا وسريعا بضربات فرشاة واسعة وقصيرة، رسم رأس ومنكبي رجل في منتصف العمر بشعر طويل فاحم وشارب وذؤابة صغيرة تحت شفته. كما أضاف له ياقة بيضاء مطويّة فوق معطفه الأسود، على طريقة القرن السادس عشر.
ويقال إن فكرة البورتريه، الموجود اليوم في متحف بكوبنهاغن والذي تمّ استنساخه مرارا، جاءت بناءً على طلب الكاهن بولمارت الذي كان صديقا حميما لديكارت. وقد أراد الكاهن أن يحتفظ بتذكار للفيلسوف قبل أن يغادر "أي ديكارت" هولندا حيث كان يعيش، قاصدا استوكهولم كي يدرّس الفلسفة لكريستينا ملكة السويد. وكان ديكارت يقيم في هولندا ابتداءً من عام 1629، وقضى معظم حياته فيها بعيدا عن أعين الكنيسة.
ولد رينيه ديكارت عام 1596م. وفي سنّ العاشرة حضر دروسا في إحدى أفضل الكلّيات اليسوعية في فرنسا. ومنها حصل على أفضل تعليم في الفلسفة الارسطية. وبكلمات المؤلّف نادلر، أتاحت له تلك الدراسة "الاطلاع على نظريات بالية علميّا عن الكون، ولكنها مقبولة دينيّا". وهذه هي الأفكار التي سينقلب عليها ديكارت في ما بعد.
وبينما يتمّ تذكّره اليوم على انه الفيلسوف الذي قال "أنا أفكّر، إذن أنا موجود"، فإن أعمال ديكارت هي أوسع وأهمّ من ذلك بكثير.
كان عالم رياضيات لامعا، وكتب على نطاق واسع في علم الأحياء والبصريات وعلم الكونيات.
في العلم، كان مشروع ديكارت الكبير هو استبدال تجريدات أرسطو بصورة آليّة للكون لا يمكن أن تُفسّر إلا من منظور المادّة والحركة والتأثير. وفي الفلسفة، كان يبحث عن نقطة من اليقين المطلق أو الأساس المتين الذي يمكن أن يقيم عليه منظومة فكرية جديدة.
ثمّ يقدّم المؤلّف شرحا لفلسفة وعلم ديكارت، ويعطي القاري لمحة عن طبيعة الحياة في العصر الذهبي الهولندي. كما يخصّص فصلا من الكتاب لتحفة ديكارت، أي كتاب "التأمّلات"، الذي يشبه كتاب "الحوارات" لأفلاطون وكتاب "ما وراء الخيروالشرّ" لنيتشه.
تأمّلات ديكارت تتكشّف في وقت متأخّر من الليل، وتبدأ وهو يرسم لنفسه صورة بينما يجلس إلى جانب المدفأة ويرتدي ملابس شتوية. انه يضع مشهدا مألوفا يمكن لأيّ قارئ أن يتخيّل نفسه فيه أيضا. في التأمّل الأوّل يقرّر أن ينبذ كلّ معتقداته التي يمكن أن يخالطها أقلّ قدر من الشك. وهدفه هو أن يكتشف حقيقة لا يمكن دحضها ويمكن أن يبني عليها أساسا لفلسفته الجديدة.
ديكارت لم يكن مجرّد فيلسوف بالمعنى الحديث للكلمة، بل يمكن فهمه أفضل كعالم. في هولندا نراه يتجوّل في الريف ويُجري تجارب على الدواجن ليرى كيف تتشكّل الفراخ الصغيرة، أو يشرف على عمل المزارعين المحليين وهم يذبحون الأبقار لكي يتمكّن من فحص نموّ صغارها.
الكنيسة لم تكن على وفاق مع ديكارت، بسبب حديثه عن الشكّ واليقين، ومن ثمّ اتهمته بأنه يريد تقويض الإيمان بالله. وبعد وفاته، وضعت السلطات الكنسية معظم كتاباته في خانة الكتابات الممنوعة. ومن الواضح أن رؤيته للأشياء لم تكن تتّفق مع تلك التي للاهوت.
بعد طول تفكير، قبل ديكارت دعوة ملكة السويد بالذهاب إلى الشمال المتجمّد. كان يكره البرد دائما. ولطالما قضى ليالي الشتاء مع الكاهن بولمارت في الاستماع إلى الموسيقى المبهجة.
وفي السويد، كان من عادته أن يبقى في سريره الدافئ حتى ساعة متأخّرة من الصباح. وقد أصيب بالتهاب رئوي وتوفّي بعد أشهر قليلة من وصوله إلى هناك.
صديقه بولمارت كان يستمتع بالنظر إلى البورتريه بعد أن فقد صاحبه. أما الملكة التي تعيش في قصر ثلجي، أي كريستينا، فقد اعتنقت أفكار معلّمها بعد موته. ومن جهتهم، قضى الفلاسفة ورجال الدين مئات السنين ودمّروا فدادين من الغابات ليكتبوا الكتب والمقالات الكثيرة التي تتحدّى فلسفته وتهاجمه وتحاول دحض أقواله والتقليل من جهده. "مترجم بتصرّف"
الكتاب: The Philosopher, the Priest, and the Painter: A Portrait of Descartes by Steven Nadler.
وفي أيّامنا هذه، فإن رينيه ديكارت، المفكّر الفرنسي من القرن السابع عشر والذي كثيرا ما يوصف بأنه مؤسّس الفلسفة الحديثة، يُعتبر كيس اللكم المفضّل.
ومن علامات اتساع نطاق تأثير هذا الرجل أنه صنع لنفسه الكثير من الأعداء، من بينهم علماء نفس ومدافعون عن حقوق النساء وعلماء أحياء ومدافعون عن حقوق الحيوان.
وكانت هناك ضربات أخرى وُجّهت له في الآونة الأخيرة أيضا. فطبيب الأعصاب أنطونيو داماسيو، في تقريره بعنوان "خطأ ديكارت"، هاجم فصل ديكارت العقل عن العاطفة. وفي تاريخ حقوق الحيوان، يوصف ديكارت باعتباره شخصا شرّيرا لادعائه أن الحيوانات ليست أكثر من مكائن متطوّرة وليس لها القدرة على الشعور بالألم. وقد كتب بمرح إلى صديق عام 1638 يقول: فتحت صدر أرنب حيّ ثم أزلت الضلوع لأرى القلب وجذع الشريان الأورطي".
أما بالنسبة للبيئة، فإن التصوّر الديكارتي عن قصّة الإنسان "يسمح لنا بأن نعتقد بأننا منفصلون عن الأرض"، كما يقول آل غور في كتابه الصادر عام 1992 بعنوان "الأرض في الميزان". بل إن بعض المفكّرين الماركسيين يعزون اغتراب العامل في ظلّ الرأسمالية إلى تأثير ديكارت.
في كتابه الجديد والصغير بعنوان "الفيلسوف والكاهن والرسّام: بورتريه لديكارت"، يحاول الكاتب ستيفن نادلر أن يضع ديكارت في زمانه ومكانه الصحيحين ويوضّح الأسباب التي جعلت منه النجم والمفكّر الساطع في زمنه، أو بعبارته هو - أي المؤلّف - أعظم فيلسوف في قرن مليء بالفلاسفة.
عَرْض نادلر لحياة ديكارت يبدأ بلوحة. فأشهر صورة لهذا الفيلسوف تُعزى تاريخيّا للرسّام الهولندي العظيم فرانز هولس، مع انه لا يوجد دليل يُثبت أن الاثنين التقيا. كان هولس ملتزما بإنجاز لوحات لرعاته فقط. ولم يكن هؤلاء مفكّرين، بل رجال أعمال أثرياء في الغالب.
هل من رسم هذه الصورة هو هولس فعلا؟ وإذا كان هو من رسمها، فهل من يظهر فيها هو ديكارت حقّا؟ وإذا كان هو، فأين التقيا وكيف؟
المؤلّف يبحث عن إجابات لهذه الأسئلة وغيرها من خلال إعادة بناء حياة ديكارت في هولندا التي أقام فيها طويلا ونشر عددا من كتبه المهمّة. وبحسب نادلر، فإن ديكارت ينتمي للثقافة الفكرية للعصر الذهبيّ الهولنديّ بقدر ما ينتمي لتاريخ الفلسفة الغربية.
ولكي يتحقّق من قصّة البورتريه، يباشر بسرد ثلاث قصص: قصّة ديكارت وقصّة الرسّام هولس وقصّة الكاهن الكاثوليكي اوغستين بولمارت الذي كلّف الفنّان برسم اللوحة.
هولس في البورتريه رسم شيئا بسيطا وسريعا بضربات فرشاة واسعة وقصيرة، رسم رأس ومنكبي رجل في منتصف العمر بشعر طويل فاحم وشارب وذؤابة صغيرة تحت شفته. كما أضاف له ياقة بيضاء مطويّة فوق معطفه الأسود، على طريقة القرن السادس عشر.
ويقال إن فكرة البورتريه، الموجود اليوم في متحف بكوبنهاغن والذي تمّ استنساخه مرارا، جاءت بناءً على طلب الكاهن بولمارت الذي كان صديقا حميما لديكارت. وقد أراد الكاهن أن يحتفظ بتذكار للفيلسوف قبل أن يغادر "أي ديكارت" هولندا حيث كان يعيش، قاصدا استوكهولم كي يدرّس الفلسفة لكريستينا ملكة السويد. وكان ديكارت يقيم في هولندا ابتداءً من عام 1629، وقضى معظم حياته فيها بعيدا عن أعين الكنيسة.
ولد رينيه ديكارت عام 1596م. وفي سنّ العاشرة حضر دروسا في إحدى أفضل الكلّيات اليسوعية في فرنسا. ومنها حصل على أفضل تعليم في الفلسفة الارسطية. وبكلمات المؤلّف نادلر، أتاحت له تلك الدراسة "الاطلاع على نظريات بالية علميّا عن الكون، ولكنها مقبولة دينيّا". وهذه هي الأفكار التي سينقلب عليها ديكارت في ما بعد.
وبينما يتمّ تذكّره اليوم على انه الفيلسوف الذي قال "أنا أفكّر، إذن أنا موجود"، فإن أعمال ديكارت هي أوسع وأهمّ من ذلك بكثير.
كان عالم رياضيات لامعا، وكتب على نطاق واسع في علم الأحياء والبصريات وعلم الكونيات.
في العلم، كان مشروع ديكارت الكبير هو استبدال تجريدات أرسطو بصورة آليّة للكون لا يمكن أن تُفسّر إلا من منظور المادّة والحركة والتأثير. وفي الفلسفة، كان يبحث عن نقطة من اليقين المطلق أو الأساس المتين الذي يمكن أن يقيم عليه منظومة فكرية جديدة.
ثمّ يقدّم المؤلّف شرحا لفلسفة وعلم ديكارت، ويعطي القاري لمحة عن طبيعة الحياة في العصر الذهبي الهولندي. كما يخصّص فصلا من الكتاب لتحفة ديكارت، أي كتاب "التأمّلات"، الذي يشبه كتاب "الحوارات" لأفلاطون وكتاب "ما وراء الخيروالشرّ" لنيتشه.
تأمّلات ديكارت تتكشّف في وقت متأخّر من الليل، وتبدأ وهو يرسم لنفسه صورة بينما يجلس إلى جانب المدفأة ويرتدي ملابس شتوية. انه يضع مشهدا مألوفا يمكن لأيّ قارئ أن يتخيّل نفسه فيه أيضا. في التأمّل الأوّل يقرّر أن ينبذ كلّ معتقداته التي يمكن أن يخالطها أقلّ قدر من الشك. وهدفه هو أن يكتشف حقيقة لا يمكن دحضها ويمكن أن يبني عليها أساسا لفلسفته الجديدة.
ديكارت لم يكن مجرّد فيلسوف بالمعنى الحديث للكلمة، بل يمكن فهمه أفضل كعالم. في هولندا نراه يتجوّل في الريف ويُجري تجارب على الدواجن ليرى كيف تتشكّل الفراخ الصغيرة، أو يشرف على عمل المزارعين المحليين وهم يذبحون الأبقار لكي يتمكّن من فحص نموّ صغارها.
الكنيسة لم تكن على وفاق مع ديكارت، بسبب حديثه عن الشكّ واليقين، ومن ثمّ اتهمته بأنه يريد تقويض الإيمان بالله. وبعد وفاته، وضعت السلطات الكنسية معظم كتاباته في خانة الكتابات الممنوعة. ومن الواضح أن رؤيته للأشياء لم تكن تتّفق مع تلك التي للاهوت.
بعد طول تفكير، قبل ديكارت دعوة ملكة السويد بالذهاب إلى الشمال المتجمّد. كان يكره البرد دائما. ولطالما قضى ليالي الشتاء مع الكاهن بولمارت في الاستماع إلى الموسيقى المبهجة.
وفي السويد، كان من عادته أن يبقى في سريره الدافئ حتى ساعة متأخّرة من الصباح. وقد أصيب بالتهاب رئوي وتوفّي بعد أشهر قليلة من وصوله إلى هناك.
صديقه بولمارت كان يستمتع بالنظر إلى البورتريه بعد أن فقد صاحبه. أما الملكة التي تعيش في قصر ثلجي، أي كريستينا، فقد اعتنقت أفكار معلّمها بعد موته. ومن جهتهم، قضى الفلاسفة ورجال الدين مئات السنين ودمّروا فدادين من الغابات ليكتبوا الكتب والمقالات الكثيرة التي تتحدّى فلسفته وتهاجمه وتحاول دحض أقواله والتقليل من جهده. "مترجم بتصرّف"
الكتاب: The Philosopher, the Priest, and the Painter: A Portrait of Descartes by Steven Nadler.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق