سوسن بدر، السبع وصايا
هند هيثم
قبل الخواجة عبد القادر (٢٠١٢) كان من الصعب التفكير في عملٍ درامي يدور في إطارٍ صوفي ويعكس فلسفةً وممارساتٍ صوفية، يُعرَض في رمضان على جمهورٍ عام. كان التشدد الديني يُحرض ضد الصوفية، ولم تكن موضوعاً مُربحاً مالياً بما يُبرر إنتاج أعمالٍ تعتمد عليها. فيما، ازدهرت الصوفية أدبياً، وبدا أن شُهرتها ومكانتها قد تأكدت مع رواية قواعد العشق الأربعون ومستنسخاتها العربية، مما جعل الصوفية موضوعاً مُربحاً أدبياً، وأوجد شريحة من الجمهور مهتمة بالأعمال الصوفية.
بطبيعة الحال، من غير الواقعي القول إن عملاً مثل الخواجة عبد القادر قد كُتِب استجابة للجو المتبدل ناحية الصوفية - أو تنبؤاً به - غير أنّ جزءاً من المكانة التي حازها جاء لأنّ توقيته كان مُناسباً. الأمر ذاته ينسحب على مسلسل السبع وصايا الذي يقوم على فلسفةٍ وممارساتٍ صوفية، رغم أن مؤلفه يُنكِر ذلك.
قبل هذه الأعمال، كانت الصوفية تحظى بمكانة متميزة بوصفها التقليد الإسلامي الذي لا يُعادي الفنون، وله رصيدٌ فني - شعري خصوصاً - كبير. كانت السرديات الشعبية حول الصوفية في غاية البساطة، فهناك من رآها وثنية صرفة، ومن رآها فرعاً رحباً ولطيفاً من الفقه الإسلامي يمتلئ بالشخصيات الظريفة حاضرة البديهة التي تقول الشعر الغامض المليء بالإحالات والإشارات طوال الوقت، ورُبما تحتسي الخمر من حينٍ لآخر، وتضمن العفو على خطاياها الصغيرة لأنها تعرف الخطاب اللغوي المُناسب لحيازة الغفران الديني. ثمة عامل السرّانية الذي يُميز المراتب الصوفية، وهذا يجذب هواة التنظيمات السرّانية إليها بوصفها ظاهرة فلكلورية وتاريخية جذابة.
غير أن الخواجة عبد القادر والسبع وصايا كانا أيضاً ضربةً للفكر الصوفي، كُل واحدٍ منهما بطريقته الخاصة، وقد يكون السبع وصايا - بالذات - قد تسبب في إزعاج الكثير من المتصوفة بسبب الحمل الخُرافي الشديد الذي يجلبه إلى الجمهور العريض. في الوقت نفسه، فإن الصوفية قد جاءت مُناسبة تماماً للمُسلسل، لأن الصوفية ظاهرةٌ من ظواهر الدين الجديد الذي يشيع في العالم، ويجتذب طائفة كبيرة من هواة التنمية البشرية وقصص النجاح والكتابات التي تتحدث عن الوحدة الكونية، في الوقت نفسه الذي يرفضون فيه تحمل أي مسؤولية جمعية إزاء الشر في العالم.
في الواقع، الأمورُ ليست بسيطة أبداً، ولا يُمكِن تعريفها بجُملٍ مُعممة. طروحاتُ المُسلسلين مُركبة، كما أن الطريقة التي يعملان بها معاً، ويتعارضان كذلك، عبارة عن سيرورة process من الصُعب أن تُجمَل في عباراتٍ مُعممة. وقد يكون من المُجدي محاولة تحليل المكونات المختلفة التي تكون هذه السيرورات.
بُنية الحكاية
الفنُ لا يتعلق فقط بمقولاته، وإنما بالكيفية التي يُعبِر بها عن هذه المقولات. لذا، فإن الكيفية التي ينبني بها المُسلسلان جُزء لا يتجزأ من مقولاتهما الكُلية. رغم الاختلاف الظاهري، إلا أن المُسلسلين يتشابهان في البُنية المُركبة: الخواجة عبد القادر يتعامل مع فضاءات زمنية مختلفة ومتداخلة، وإلى حدٍ ما مع امتداداتٍ جُغرافية مُختلفة. فيما يتعامل السبع وصايا مع قصصٍ متداخلة تمتد على فضاء مكاني واسع نسبياً. في أحد العملين، فإن الزمان متعددٌ وواحد في الآن ذاته، وفي الآخر فإن المكان مُتعددٌ وواحد في الآن ذاته. وإذا لجأنا إلى الفيزياء النظرية التي قد تنحو منحى فلسفياً - ورُبما صوفياً - فإننا نعيش جميعاً في الزمان، لا المكان، والمكان بحد ذاته ليس إلا نقاطاً مُحددة في الزمان، بناء يُبنى في الفراغ الذي يحكمه الزمان. (١)
يبدو الاختلاف الأكثر تجلياً بين العملين تعدد الشخصيات: في الخواجة عبد القادر، فإن المسلسل يدور حول شخصٍ واحد، هربرت دوبرفيلد الذي يتحول إلى الخواجة عبد القادر (يحيى الفخراني). في السبع وصايا، فإن للحكاية سبعة أبطالٍ رئيسيين هُم الإخوة، وأبوهم سيد نفيسة، وطيفٌ واسع من الشخصيات التي ترتبط بحكاية كُل أختٍ أو أخ. مع ذلك، يُمكِن القول إن هربرت دوبرفيلد لم يكن واحداً، فهو في لندن شخص، وفي السودان شخص، وفي صعيد مصر شخص. في رحلة دوبرفيلد من اليأس العدمي إلى القداسة، فإنّه يمر بمراحل تحولٍ كبيرة يصعب معها القول إنّه الشخص نفسه طوال الوقت. ولعل هذا ينطبق على جُلِ الشخصيات في قصصِ التحول المشابهة، وإلى حدٍ كبير، فإنّه ينطبق على البشر في الحياة الواقعية. غير أن الإسراف في تشظية الفرد الواحد قد يقود إلى محو هذا الفرد كُلياً.
في السبع وصايا، تعدُد الأفراد واضح، وليس ثمة نفوسٌ مُتشظية ظاهرة كما في حالةِ الخواجة عبد القادر، باستثناء هند نفيسة (آيتن عامر) وصبري نفيسة (محمد شاهين)، اللذين يُفترض أنهما كانا الأخوين الأكثر تقوى وقُرباً إلى الله، وقد تحولا تحولاتٍ لا تليق بما كان لهما من سابقةٍ في التقوى. تحول الأخوان في تغريبتهما تحولاتٍ يظهر فيها جلياً الفِكر الذي يقضي بأن الشر عشوائي، وإنّه قوي وقادر. وتتحول تقوى الأخوين السابقة إلى نوعٍ من تأنيب الضمير الخانع - من باب تحصيل الحاصل - حيال الأخطاء التي يرتكبانها، فتركيبة الأخت المقوية للرجال تقتلهم، والأخ يعمل قواداً ويتزوج من أربعٍ من نساء الكار - ويعشق خامسة، في ما يُكوِن "حرملك" صغيراً، والحرملك عاد ليكون جزءاً من الدراما العربية.
ثمة أيضاً سيد نفيسة (أحمد فؤاد سليم) ذاته، الرجل المريض للغاية، الذي أتعب ابنته الكُبرى بمرضه وخدمتها له، ولم يكن رجلاً طيباً ولا حسن السيرة، بل إنّ بوسي (رانيا يوسف) تعتقد أنّه قد قتل أمها. الأبناء السبعة يعيشون في فقرٍ إما كفاف وإما مُدقع، ويبدو أنهم ينحدرون من أسرةٍ يُنظَر إليها باحتقارٍ في مُحيطها، أي أنهم يعيشون حياة ذلةٍ ومسكنة - باستثناء محمود نفيسة (صبري فواز) الذي يملك محلاً صغيراً يجعله أفضل حالاً من إخوته، مع أنهم جميعاً في حالٍ من الفقر المُدقع والهوان. فجأة، تكتشف بوسي أن لسيد نفيسة ثمانية وعشرين مليون جُنيه. لماذا كان لدى سيد نفيسة هذا المال؟ ولماذا لم يُطعم أولاده منه؟ ويُشكل اكتشاف هذا المال الدافع الرئيسي للإخوة لقتل أبيهم.
نصيب الفردِ منهم من التركة سيتفاوت بحسب تقسيم الإرث في الإسلام، وبشكلٍ عام، فإن ما سيحصلون عليه ليس مبالغ طائلة في حد ذاتها، بل طائلةً قياساً إلى فقرهم المُدقع. هل تكفي خمسة ملايين جُنيه ليقتل الفرد أباه؟ الواقع يقول إن هذا مُمكِن، بل إن أقل من هذا قد يدفع الأبناء لقتل آبائهم. بغض النظر عن الواقع خارج المُسلسل، فإنّه يُلمِح إلى أن قتل الأبناء لسيد نفيسة - أو قتل بوسي (رانيا يوسف) له تحديداً - يأتي بسبب حياة الذلة والمسكنة التي فرضها عليهم، وبوصفه نوعاً من الانتقام للأم الغائبة. ثمة، كذلك، البديهية المتعلقة بأنّه إذا لم يُقتل سيد نفيسة، فليس هُناك مُسلسل. مقتل سيد نفيسة هو الحدث المؤسس للدراما في السبع وصايا، ولا مناص منه.
غير أن جثة سيد نفيسة تختفي، ومن هُنا تبدأ لُعبة الجثث التي تظهر وتختفي في المسلسل. هذا الجانب مُشوش في المُسلسل، ورُبما تفسره الحلقة الأخيرة. فإذا كان اختفاء جُثة سيد نفيسة علامة على قُدسيته، فماذا عن اختفاء الجُثث الأخرى؟ هل القتلى الآخرون قديسون أيضاً؟ (أو أولياء) وإذا كان سيد نفيسة هو من أخفى جُثته وجُثث الباقين؟ وإذا كان هذا ما حدث فعلاً، فأين يضع هذا سيد نفيسة؟ أفي مراتب القداسة أم مراتب الدنس؟ (وهذه مُشكلة قروسطية، سواء في الصوفية الإسلامية أو في الأنظمة المُشابهة لها في المسيحية، فإذا تشابهت كرامات الأولياء ومعجزات القديسين مع أفعال السحرة والمتصلين بالشياطين، فما الذي يُفرِق القديس أو الولي عن الساحر والشيطان؟ ومن أين تأتي هذه "الكرامات"؟ أمن الله أم مِن الشيطان؟ بطبيعة الحال، الإجابة للمدارس المُعادية للصوفية وما شابهها واضحة وضوح الشمس، غير أنّ هذه أسئلة إشكالية داخل الإطار الفكري الذي يقبل الكرامات والخوارق).
في كُل الأحوال، فإن سيد نفيسة يتحول إلى ميتا-بطريارك meta-patriarch يتحكم بذُريته تحكماً مُطلق عن طريق الأحلام، وعن طريق الوصايا التي يُفترض أنّه تركها لهم، بشكلٍ يُماثِل ما وصفه بيير بورديو في الهيمنة الذكورية بأنّه قُدرة البطريارك التنبؤية بمستقبل أولاده، الأمرُ الذي يظهر في أكثر صوره عادية وعمومية في عباراتٍ من قبيل: "تِفِ على قبري لو فلحت". ويتجلى في أكثر صوره تطرفاً في حالة الميتا-بطريارك سيد نفيسة، الذي يتنبأ بأن أولاده سيقتلونه، ويترك لهم الوصايا التي ينبغي عليهم تنفيذها ليجدوه في النهاية - أو يجدوا جثته. تحكم سيد نفيسة في حياة أبنائه بعد مماته (المُفترض) تحكمٌ مُطلق، يُظهره المُسلسل في هيئته جالساً على العرش الذي يُخاطِب منه أولاده. ومن موقعه على العرش فإنّه يُملي أوامره على أبنائه. شكلُ العرش يوحي بالذات الإلهية، غير أن الالتباس بين المُدنس والمُقدس يظهر من جديد في هذه الصورة.
في أحد مشاهد المسلسل، يتخيل مُنصف نفيسة (هيثم زكي) نفسه على العرش، وقد تحول إلى ميتا-بطريارك هو نفسه. وفي مشهدٍ آخر، يتخيل أحمد عرنوس (وليد فواز) أن الشيخ الذي صرف العفاريت عنه (علاء زينهم) يجلس على العرش وقد تحول هو أيضاً إلى ميتا-بطريارك. مُنصف نفيسة يعتقد في نفسه الكفاءة ليخلف أباه، فيما عرنوس (يشتري) نوعاً من البطريارك لأنّه لا يملك تصوراً ذهنياً لماهية البطريارك، ولا يؤمن بسيد نفيسة. رؤية الميتا-بطريارك على العرش تتطلب الإيمان به، وفي حينِ يُمكِن صرف هذه الرؤى جميعها على أنها خيالات ضالة يرى فيها كُلٌ انعكاساً لمخاوفه وهواجسه وتحقيقاً لرغباته الداخلية، (نصائح سيد نفيسة نصائح لا تقود إلى الخير عموماً)، فإن هذه الصور تُظهر أيضاً الإزدواج بين القداسة والدنس، وبين الخوارقي الخالص - الوصايا - وبين انعكاس الذات. وفي حالة عرنوس وشيخه، فإن شيخه قد يكون القوة المضادة لقوة سيد نفيسة (القُطب المضاد)، الذي يهدم ما يريد سيد نفيسة بناءه - لأنّه يُريد اعتقال أبناءه وإعاقة تنفيذ الوصايا. الشيخ نفسه مثل سيد نفيسة، فرغم أنّه يُخرِج الجن، إلا أن عمله الدنيوي لا يضعه في مراتب عالية بين الناس. الشيخ، مثل سيد نفيسة، يجمع ما بين القدرة الخارقة وضِعة المنزلة خارج الإطار الغيبي. ويُمكِن كذلك أن يستوعب سيد نفيسة - إذا كان قُطباً أعظم - منزلة الشيخ ضمن أغراضه، فهو لا يهدف لحفظ أولاده فحسب، وإنما للانتقام منهم ومعاقبتهم على قتلهم إياه. (وهذا يقود إلى السؤال الدنيوي البسيط الذي يُحرِك المسلسل: من أرسل الرسالة التي حركت الأحداث؟ وكيف صار الأبناء في غاية التأكد من أن أباهم الذي أمضى سنين مريضاً يملك هذا المال؟ ثُمَ هُناك سؤالٌ يتعلق بالخيارات المظهرية للمسلسل، فمظهر سيد نفيسة المريض لا يختلف في شيء عن مظهره وهو جالسٌ فوق العرش. فلا هو كان يوحي باقتراب الموت في رقدته، ولا هو يوحي بالصحة والقوة على عرشه.)
بالعودة إلى الفكر القروسطي من جديد - وهو فكرٌ يظهر في الصوفية - ثمة شخصية ملك العالم Rex Mundi، ملك العالم ليس المهدي المُنتظر أو المسيح أو شخصيةً إيجابية بشكلٍ عام، بل إن ملك العالم، الذي يستقر عرشه في محور العالم، هو الطاغوت، مُتجسداً في هيئاتٍ مُتعددة بشرية وغير بشرية. قد يكون سيد نفيسة، البطريارك الجالس على عرش العالم بالنسبة لأولاده، صورةٌ من صور ملك العالم، وتجلٍ من تجلياته.ولكون الميتا-بطريارك من تجليات الطاغوت، فإنّ الطاغوت يجتر السرديات الكبرى التي يعمل وفقها الميتا-بطريارك ويعيد إنتاجها في إطارٍ يقوم على التناقض والمفارقة.
يحيى الفخراني: هربرت دوبرفيلد في لندن
يبدو الاختلاف الأكثر تجلياً بين العملين تعدد الشخصيات: في الخواجة عبد القادر، فإن المسلسل يدور حول شخصٍ واحد، هربرت دوبرفيلد الذي يتحول إلى الخواجة عبد القادر (يحيى الفخراني). في السبع وصايا، فإن للحكاية سبعة أبطالٍ رئيسيين هُم الإخوة، وأبوهم سيد نفيسة، وطيفٌ واسع من الشخصيات التي ترتبط بحكاية كُل أختٍ أو أخ. مع ذلك، يُمكِن القول إن هربرت دوبرفيلد لم يكن واحداً، فهو في لندن شخص، وفي السودان شخص، وفي صعيد مصر شخص. في رحلة دوبرفيلد من اليأس العدمي إلى القداسة، فإنّه يمر بمراحل تحولٍ كبيرة يصعب معها القول إنّه الشخص نفسه طوال الوقت. ولعل هذا ينطبق على جُلِ الشخصيات في قصصِ التحول المشابهة، وإلى حدٍ كبير، فإنّه ينطبق على البشر في الحياة الواقعية. غير أن الإسراف في تشظية الفرد الواحد قد يقود إلى محو هذا الفرد كُلياً.
الأشقاء السبعة
في السبع وصايا، تعدُد الأفراد واضح، وليس ثمة نفوسٌ مُتشظية ظاهرة كما في حالةِ الخواجة عبد القادر، باستثناء هند نفيسة (آيتن عامر) وصبري نفيسة (محمد شاهين)، اللذين يُفترض أنهما كانا الأخوين الأكثر تقوى وقُرباً إلى الله، وقد تحولا تحولاتٍ لا تليق بما كان لهما من سابقةٍ في التقوى. تحول الأخوان في تغريبتهما تحولاتٍ يظهر فيها جلياً الفِكر الذي يقضي بأن الشر عشوائي، وإنّه قوي وقادر. وتتحول تقوى الأخوين السابقة إلى نوعٍ من تأنيب الضمير الخانع - من باب تحصيل الحاصل - حيال الأخطاء التي يرتكبانها، فتركيبة الأخت المقوية للرجال تقتلهم، والأخ يعمل قواداً ويتزوج من أربعٍ من نساء الكار - ويعشق خامسة، في ما يُكوِن "حرملك" صغيراً، والحرملك عاد ليكون جزءاً من الدراما العربية.
آيتن عامر: هند نفيسة
ثمة أيضاً سيد نفيسة (أحمد فؤاد سليم) ذاته، الرجل المريض للغاية، الذي أتعب ابنته الكُبرى بمرضه وخدمتها له، ولم يكن رجلاً طيباً ولا حسن السيرة، بل إنّ بوسي (رانيا يوسف) تعتقد أنّه قد قتل أمها. الأبناء السبعة يعيشون في فقرٍ إما كفاف وإما مُدقع، ويبدو أنهم ينحدرون من أسرةٍ يُنظَر إليها باحتقارٍ في مُحيطها، أي أنهم يعيشون حياة ذلةٍ ومسكنة - باستثناء محمود نفيسة (صبري فواز) الذي يملك محلاً صغيراً يجعله أفضل حالاً من إخوته، مع أنهم جميعاً في حالٍ من الفقر المُدقع والهوان. فجأة، تكتشف بوسي أن لسيد نفيسة ثمانية وعشرين مليون جُنيه. لماذا كان لدى سيد نفيسة هذا المال؟ ولماذا لم يُطعم أولاده منه؟ ويُشكل اكتشاف هذا المال الدافع الرئيسي للإخوة لقتل أبيهم.
سيد نفيسة طريح الفراش
نصيب الفردِ منهم من التركة سيتفاوت بحسب تقسيم الإرث في الإسلام، وبشكلٍ عام، فإن ما سيحصلون عليه ليس مبالغ طائلة في حد ذاتها، بل طائلةً قياساً إلى فقرهم المُدقع. هل تكفي خمسة ملايين جُنيه ليقتل الفرد أباه؟ الواقع يقول إن هذا مُمكِن، بل إن أقل من هذا قد يدفع الأبناء لقتل آبائهم. بغض النظر عن الواقع خارج المُسلسل، فإنّه يُلمِح إلى أن قتل الأبناء لسيد نفيسة - أو قتل بوسي (رانيا يوسف) له تحديداً - يأتي بسبب حياة الذلة والمسكنة التي فرضها عليهم، وبوصفه نوعاً من الانتقام للأم الغائبة. ثمة، كذلك، البديهية المتعلقة بأنّه إذا لم يُقتل سيد نفيسة، فليس هُناك مُسلسل. مقتل سيد نفيسة هو الحدث المؤسس للدراما في السبع وصايا، ولا مناص منه.
بوسي وسيد نفيسة
غير أن جثة سيد نفيسة تختفي، ومن هُنا تبدأ لُعبة الجثث التي تظهر وتختفي في المسلسل. هذا الجانب مُشوش في المُسلسل، ورُبما تفسره الحلقة الأخيرة. فإذا كان اختفاء جُثة سيد نفيسة علامة على قُدسيته، فماذا عن اختفاء الجُثث الأخرى؟ هل القتلى الآخرون قديسون أيضاً؟ (أو أولياء) وإذا كان سيد نفيسة هو من أخفى جُثته وجُثث الباقين؟ وإذا كان هذا ما حدث فعلاً، فأين يضع هذا سيد نفيسة؟ أفي مراتب القداسة أم مراتب الدنس؟ (وهذه مُشكلة قروسطية، سواء في الصوفية الإسلامية أو في الأنظمة المُشابهة لها في المسيحية، فإذا تشابهت كرامات الأولياء ومعجزات القديسين مع أفعال السحرة والمتصلين بالشياطين، فما الذي يُفرِق القديس أو الولي عن الساحر والشيطان؟ ومن أين تأتي هذه "الكرامات"؟ أمن الله أم مِن الشيطان؟ بطبيعة الحال، الإجابة للمدارس المُعادية للصوفية وما شابهها واضحة وضوح الشمس، غير أنّ هذه أسئلة إشكالية داخل الإطار الفكري الذي يقبل الكرامات والخوارق).
سيد نفيسة على عرشه غارق في الظلمات
في كُل الأحوال، فإن سيد نفيسة يتحول إلى ميتا-بطريارك meta-patriarch يتحكم بذُريته تحكماً مُطلق عن طريق الأحلام، وعن طريق الوصايا التي يُفترض أنّه تركها لهم، بشكلٍ يُماثِل ما وصفه بيير بورديو في الهيمنة الذكورية بأنّه قُدرة البطريارك التنبؤية بمستقبل أولاده، الأمرُ الذي يظهر في أكثر صوره عادية وعمومية في عباراتٍ من قبيل: "تِفِ على قبري لو فلحت". ويتجلى في أكثر صوره تطرفاً في حالة الميتا-بطريارك سيد نفيسة، الذي يتنبأ بأن أولاده سيقتلونه، ويترك لهم الوصايا التي ينبغي عليهم تنفيذها ليجدوه في النهاية - أو يجدوا جثته. تحكم سيد نفيسة في حياة أبنائه بعد مماته (المُفترض) تحكمٌ مُطلق، يُظهره المُسلسل في هيئته جالساً على العرش الذي يُخاطِب منه أولاده. ومن موقعه على العرش فإنّه يُملي أوامره على أبنائه. شكلُ العرش يوحي بالذات الإلهية، غير أن الالتباس بين المُدنس والمُقدس يظهر من جديد في هذه الصورة.
سيد وهند نفيسة
في أحد مشاهد المسلسل، يتخيل مُنصف نفيسة (هيثم زكي) نفسه على العرش، وقد تحول إلى ميتا-بطريارك هو نفسه. وفي مشهدٍ آخر، يتخيل أحمد عرنوس (وليد فواز) أن الشيخ الذي صرف العفاريت عنه (علاء زينهم) يجلس على العرش وقد تحول هو أيضاً إلى ميتا-بطريارك. مُنصف نفيسة يعتقد في نفسه الكفاءة ليخلف أباه، فيما عرنوس (يشتري) نوعاً من البطريارك لأنّه لا يملك تصوراً ذهنياً لماهية البطريارك، ولا يؤمن بسيد نفيسة. رؤية الميتا-بطريارك على العرش تتطلب الإيمان به، وفي حينِ يُمكِن صرف هذه الرؤى جميعها على أنها خيالات ضالة يرى فيها كُلٌ انعكاساً لمخاوفه وهواجسه وتحقيقاً لرغباته الداخلية، (نصائح سيد نفيسة نصائح لا تقود إلى الخير عموماً)، فإن هذه الصور تُظهر أيضاً الإزدواج بين القداسة والدنس، وبين الخوارقي الخالص - الوصايا - وبين انعكاس الذات. وفي حالة عرنوس وشيخه، فإن شيخه قد يكون القوة المضادة لقوة سيد نفيسة (القُطب المضاد)، الذي يهدم ما يريد سيد نفيسة بناءه - لأنّه يُريد اعتقال أبناءه وإعاقة تنفيذ الوصايا. الشيخ نفسه مثل سيد نفيسة، فرغم أنّه يُخرِج الجن، إلا أن عمله الدنيوي لا يضعه في مراتب عالية بين الناس. الشيخ، مثل سيد نفيسة، يجمع ما بين القدرة الخارقة وضِعة المنزلة خارج الإطار الغيبي. ويُمكِن كذلك أن يستوعب سيد نفيسة - إذا كان قُطباً أعظم - منزلة الشيخ ضمن أغراضه، فهو لا يهدف لحفظ أولاده فحسب، وإنما للانتقام منهم ومعاقبتهم على قتلهم إياه. (وهذا يقود إلى السؤال الدنيوي البسيط الذي يُحرِك المسلسل: من أرسل الرسالة التي حركت الأحداث؟ وكيف صار الأبناء في غاية التأكد من أن أباهم الذي أمضى سنين مريضاً يملك هذا المال؟ ثُمَ هُناك سؤالٌ يتعلق بالخيارات المظهرية للمسلسل، فمظهر سيد نفيسة المريض لا يختلف في شيء عن مظهره وهو جالسٌ فوق العرش. فلا هو كان يوحي باقتراب الموت في رقدته، ولا هو يوحي بالصحة والقوة على عرشه.)
بالعودة إلى الفكر القروسطي من جديد - وهو فكرٌ يظهر في الصوفية - ثمة شخصية ملك العالم Rex Mundi، ملك العالم ليس المهدي المُنتظر أو المسيح أو شخصيةً إيجابية بشكلٍ عام، بل إن ملك العالم، الذي يستقر عرشه في محور العالم، هو الطاغوت، مُتجسداً في هيئاتٍ مُتعددة بشرية وغير بشرية. قد يكون سيد نفيسة، البطريارك الجالس على عرش العالم بالنسبة لأولاده، صورةٌ من صور ملك العالم، وتجلٍ من تجلياته.ولكون الميتا-بطريارك من تجليات الطاغوت، فإنّ الطاغوت يجتر السرديات الكبرى التي يعمل وفقها الميتا-بطريارك ويعيد إنتاجها في إطارٍ يقوم على التناقض والمفارقة.
القداسة والدنس
في الخواجة عبد القادر، ليس ثمة التباس بين المُقدس والمُدنس، والحالتان لا توجدان في الوقت ذاته في التجلي ذاته. المُدنس والمُقدس يتعاقبان في الشخصيات: الخواجة عبد القادر من سكير عربيد يُريد الانتحار إلى ولي صالح له بركات وكرامات، من مُدنس إلى مُقدس. هذه الرحلة تتكرر - وإن بشكلٍ أقل قداسة - في قصتي صابر الأعمى (حسن العدل)، القاتل التائب، وشهوية (سماح السعيد)، البغي التائبة. وكلاهما لا يتحول إلى قديس، لكنهما يموتان شهيدين. ثم هُناك الشر المُتجلي، ملك العالم، عبد الظاهر عمران (أحمد فؤاد سليم، مُجدداً). عبد الظاهر عمران يقول إنّه ملكٌ في أرضه، ورغم أنّه يتصرف خارج حدود الميتا بطريارك الخُرافية، سردية البطريارك الكُبرى، فإنّه يسلُك السلوك الذي يُنسب إلى ملك العالم، إلى الطاغوت. وفي الحالتين (عبد الظاهر عمران وسيد نفيسة)، فإنّ الشخصيات المُحيطة به تُهادنه ولا ترفضه. صحيح أن أبناء سيد نفيسة يقتلونه، لكن فعل القتل يتحول إلى فعل تحرير لسُلطته المُطلقة إزاء تسليمهم الكامل بسيطرته عليهم من مملكته الخوارقية. الحاج عبد الظاهر عمران شريرٌ أقل خوارقية وأكثر وضوحاً، إنّه بطريارك صعيدي تقليدي يتحرك وفق رؤيته للعالم المحكومة بالتقاليد الموروثة وتفسيره الشخصي لها. لسيد نفيسة مظلومية كونه قتيلاً، ولعبد الظاهر عمران مظلوميته الخاصة، ففي نظره هو ضحية لأخيه الذي يفعل العيب باستمرار، ولأخته زينب (سلافة معمار) التي لا تفهم العادات والتقاليد ولا تفهم مشاعره ناحيتها، وزوجته (سوسن بدر) التي لا تفهم حبه لأخته وتتهمه بأنّه "يعشقها عشق الرجال للنساء"، وهو ضحية لتسلط الخواجة عليه، التسلط الذي يبدو خوارقياً في إلحاحه، وينبع من "قدرٍ" يربط مصير زينب عمران بالخواجة عبد القادر دوبرفيلد. مع ذلك، فإن الخواجة وزينب لا يُرفضان سُلطة الحاج عبد الظاهر، وحين يرفض تزويج زينب للخواجة، فإنهما يستبدلانه بأخيها (محمد شلش)، البطريارك البديل، المُستبعد بسبب ما يشعر أن له مظلومية عند أخيه البطريارك الأكبر، تراتبية النظام تبقى كما هي من دون مساس.
وعبد الظاهر عمران، رغم أنّه شرير غير ميتافيزيقي، يستطيع إيقاع الأذى بشكلٍ يصلُ إلى حدود ميتافيزيقية، فهو يدفن شهوية حية، وهو يُحرق بيته أخته والخواجة وهما في داخله بعد أن يُسمِر عليهما الأبواب فلا يفران. أفعال ظُلم عبد الظاهر عمران شريرةٌ ومتجلية وشبيهة بالعقوبات السماوية إلى حدٍ يبدو معه سيد نفيسة مجرد شيطان هاوٍ، وإلى حدٍ تبدو معه قداسة الخواجة الولي هروباً أنانياً من عقوبة توراتية. عبد القادر لا يستطيع إلا أن يُنقذ نفسه وزينب - كما يُفترض - بترديد دُعاء: "يا حي يا قادر، فُك أسر عبد القادر"، ولكون الولي من أهل الخطوة، فإن الدُعاء ينقله آلياً إلى حيث يتجلى لصديقه القديم فضل الله (عبد الخالق عمر). الخواجة عبد القادر لا يستطيع إنقاذ التائبين على يديه، شهوية وصابر الأعمى، ولا يستطيع حتى تحويل المظلومية التي وقعت عليهما وعليه إلى مظلومية جمعية لقرية الحورية تحثهم جميعاً على الانتفاضة. تدمير البطريارك، الحاج عبد الظاهر، يأتي من ذاته، فبسبب حُبه لأخته - الذي يبدو أنّه يدخُل في منطقة المُحرمات - وتركها له و(اضطراره) لإحراقها، يُصاب عبد الظاهر بنوبة اكتئابٍ حادة تتفاقم فتُعجزه. (في المُسلسل، فإن نهايته تظهر وكأنها ابتلاء ميتافيزيقي).
الأمرُ الذي يقود في نهاية الأمر إلى ظهور البطريارك التالي، يوسف عبد الظاهر (صلاح رشوان). يوسف عبد الظاهر مثل مُنصف نفيسة، يُريد أن يجلس محل الأب ويكون البطريارك. مُنصف نفيسة - بخلاف يوسف عبد الظاهر - من أكثر الشخصيات الباعثة على الشفقة في المُسلسل، فهو يحسب نفسه السوبرمان: الرجل القوي البدن، قوي الهمة، الداهية الذي يُخطط لكُل شيء ولا تفوته فائتة، وفحل الفحول. في واقع الأمر، مُنصف نفيسة مُجرد شرير ثانوي، وتابعٍ للدُكش وحمدتو وماجدة (محمود حافظ وخالد كمال وشيرين الطحان) يوهم نفسه بما ليس واقعاً. ومن بين الإخوة، فإنّه أكثر فردٍ موهوم بنفسه، يعتقد في نفسه أنّه الذكر المثالي الكامل. (يُركِز المُسلسل على "ذكورة" أبناء سيد نفيسة، من حيث قُدرتهم الشديدة على التناسل، ودورهم في المسلسل الذي يُشكل التناسل جزءاً كبيراً منه، سواء في محمود نفيسة الذي يُتاجر بنسله، أو منصف نفيسة الذي يقتل/يُنشئ ولده، أو صبري نفيسة الذي يستجيب لزوجاته ويكاد يكون المُنشئ لسُلالة من أولاد البغايا. من بين الإخوة، يبدو صبري نفيسة الأشبه بشخصية داريل فان هورن الذي يزرع بذرته في ثلاث نساء في ساحرات إيستويك (خصوصاً، الفيلم الذي كان جاك نيكلسُن فيه داريل فان هورن)، لكن تعدد الشريكات/الأبناء أمرُ ينسحب على محمود نفيسة كذلك. ينفرد صبري نفيسة بين الإخوة بكونه صاحب جاذبية فريدة تغوي النساء الأكبر سناً، ومنهن علّيَة (سلوى عثمان) التي صارت "صريعة" هواه. بشكلٍ عام، فإن الإخوة يُمثلون ما يُمكِن تسميته "الفحولة السحرية"، وهذا trope أو مجاز سردي يحكم المسلسل، ويُقابل الحبل الغامض mystical pregnancy).
يوسف عبد الظاهر ينجح في أن يصير البطريارك. وهو بطرياركٌ مُنذ بداية المُسلسل، في زمانه الخاص. ولأنّه قد شَهِد نهاية أبيه الكئيبة، فإنّه يُحاول تجنّب مصيره بشدة. في الوقت نفسه، فإنّه يستلهم أسطورة أبيه، "الملك في أرضه"، ويحكم قرية الحورية بقبضة حديدية مُشابهة لقبضة أبيه، مُستلهماً مثاله وتُراثه (قدر الإمكان، لأنّه لم يعد يستطيع تنفيذ أحكام الجلد والربط إلى جذوع النخل كما كان أبوه يفعل، بسبب وجود المُهتمين بحقوق الإنسان ممن سيُسببون له الصُداع). يوسف عبد الظاهر مُقتنع اقتناعاً تاماً بأن كُل شيء يتغير ويتبدل إلا الصعيد، وهو موهوم مثل مُنصف نفيسة، فهو يستلهم السردية الكُبرى لأبيه وأجداده، ويُعيد إنتاجها، ثُم يتساءل - ببراءة - عن السبب الذي يجعل آل عبد الظاهر عمران يلقون الخراب، فأخوه يكرهه كما كان عمه يكره أباه، وابنه صار مجنوناً كما كان أبوه مجنوناً. ما الذي يحدث؟ ما اللعنة الخوارقية التي حلّت بآل عبد الظاهر عمران؟ يوسف عاجز عن إدراك دوره في المأساة التي يجد نفسه فيها، وعاجز عن إدراك أن لصوصيته وظُلمه شبيهة بلصوصية أبيه وظُلمه، وأن ما يحدث لآل عبد الظاهر هو أجر الطاغوت النهائي: الخراب.
مع أن حُب عبد الظاهر لأخته زينب مسألةٌ مُقبضة، تحوم حول التابو حتى توشك أن تقع فيه، إلا أنها تتعلق بعاطفة غامضة وقوية، عاطفة تكاد تكون الأمر الوحيد في المسلسل الذي يجمع القداسة والدنس في الآن عينه. في المُقابل، يحوم السبع وصايا حول فكرة زنا المحارم بشكلٍ أكثر فجاجة و(دنساً)، فمحمود نفيسة (صبري فواز) يوشك على أن يُحبّل أخته إم إم نفيسة (هنا شيحة). كلاهما لا يعلم بما يوشك أن يقع، وما يُلمِح إليه المُسلسل ويقود إليه لا يقع في النهاية، لكن شبح التابو الشديد هذا شديد الخُبث والدناسة. (ورُبما يكون إحالة إلى التابو المُفضل في المسلسلات الأمريكية هذه الأيام، وعلى كُل حالٍ، فإن بعض شخصياتِ السبع وصايا مأخوذ من شخصيات في مسلسلات أمريكية).
والحبل دنسٌ في السبع وصايا بشكلٍ يجعل من إنجاب الأطفال فعلاً مُهيناً للكرامة. ثمة دوران حول ثيمة "الحبل الغامض" mystical pregnancy في المُسلسل، فقصص النساء إما تدور حول الحبل، أو التخلص منه وتبعاته، ورغم أن الصورة الأصلية لتروب الحبل الغامض تتطلب وجود عُنصر خوارقي، إلا أن التروب يبقى موجوداً في المُسلسل، لأن الرجال، أبناء نفيسة، الذين يلعبون دور الثيران المُلقحة يُمثلون نوعاً من الفحولة السحرية. ودلال (نسرين أمين) تحاول اجتراح مُعجزة الحبل بلا دنسٍ من جديد، فتغرق في الدنس، وتدخل في أحط أنواع التجارة. بشكلٍ ما، فإن دلال - التي تدعي أنها لا تفعل الحرام لأنها لم تمارس الفعل نفسه - قوادة. شحاتة (ابتهال الصريطي) تدعي أنها حامل لتحقيق أغراضها، وماجدة تتحول إلى صقوبةٍ لأنها فقدت جنينها وقدرتها على الحمل. ولكل امرأة حامل في المسلسل، ثمة امرأة أخرى تريدها أن تفقد حملها. وبسبب (كيد النسا) وخطأ طبي، فإن محمود نفيسة يقتل زوجته - لكن ابنه منها يولد. وبسبب كيدها الشخصي، فإن محسن الدسوقي (أحمد العوضي) يوسع بطن زوجته الحامل هند نفيسة ركلاً حتى إن الجنين قد تشوه، مع ذلك، فإنها ترفض التخلص من الحمل. في المقابل، تتآمر زوجات صبري نفيسة على زوجته الحامل (ألفت إمام)، لكنها لا تفقد جنينها. ويُقرر مُنصف نفيسة قتل ابنه بطريقة بذيئة تتفق مع تصوره عن ذاته.
أوضح مثالٍ للحمل الغامض - الفاشل - استحضار أحمد عرنوس لاثنين من العفاريت كي يُحبّلا زوجته إم إم. (الفيل الأزرق؟) وحمل مرمر نفيسة (ناهد السباعي). وهذا كُله، من أكثر ما عُرِض هذا العام في قلة اعتباره للآدمية، حيث تتحول كُل الخطوط النسائية إلى خيط وعاء يُملأ ويُفرغ، وتتحول الشخصيات الرجالية إلى متبرعين - أو تجار - بما يملأ هذا الوعاء.
وسيد نفيسة - الذي لا يُحذر إم إم أو محمود من الكارثة التي كادت تقع - سعيد بأن أبناءه يحملون أطفالاً رُضع. هذا المشهد، من جديد، يستحضر المُقدس والمُدنس في الآن ذاته، فقد يكون سيد نفيسة صورة الإله/البطريارك الأول/الميتا-بطريارك وقد أمر البشرية بأن تتناسل وتكثر ذُريتها، وقد يكون سيد نفيسة الشيطان الذي يبتهج بشيوع ثمرة الدنس، ففي تقديم المُسلسل وتناوله، الحمل والولادة ليس إلا دنساً، وهذه فكرة متآصلة في النظام البطرياركي المتناقض بين حثه على التناسل واحتقاره لعملية التناسل.
تفاهة الشر
المُجتمع الذي يصوره الوصايا السبع ليس مُجتمعاً فقيراً، بل مُجتمعاً خسيساً. يُقال إن علياً ابن أبي طالب قد قال: "إذا حل الفقر بأرضٍ قال له الكُفر خُذني معك"، وقد تنطبق هذه الحال على المُجتمع الذي يصوره المُسلسل. الدوائر المُحيطة بالمُسلسل تتعامل مع هذه المسألة بطريقتين مُتناقضتين مما يخلُق نوعاً من التنافر المعرفي cognitive dissonance في تفسير المُسلسل: الفكرة الأولى تقول إن المُسلسل ليس مرآة المُجتمع، وإنّه "فنٌ خالص" ليس له علاقة بالمُجتمع خارجه، وهذه فكرةٌ متهافتة في أساسها (وكذلك فكرة "المرآة" متهافتة)، فالفن لا يوجد في فراغ، وهو عاملٌ يتفاعل مع المجتمع المُحيط، يؤثر فيه ويتأثر به، يَنتج عنه ويُعيد إنتاجه. هذا الفن في المُجمل، أما الفن الاستهلاكي - ومن العبث القول إن المسلسلات التلفازية ليست فناً موجهاً للمستهلك المنزلي بالدرجة الأولى - فهو فنٌ يوجه لجمهورٍ عريض، يُخاطِب هذا الجمهور ويستجيب لرغباته أو يوجهها. التلفازُ ومُسلسلاته أكثر الفنون جماهيرية - من حيث اتجاهه للجماهير العريضة - وشعبوية - من حيث كونه غير نخبوي، وبغض النظر عن الكيفية التي يُشاهِد بها المُشاهد الفرد المُسلسل، سواء شاهده على شاشة التلفاز أو نزلّه من موقع تورنت أو شاهده على يوتيوب، فإن المُسلسل - أي مُسلسل - مكتوبٌ ليُعرض على شاشة فضائية، يتخلل عرضه عليها إعلانات السمن والصابون وطلب الصدقة والشقق السكنية والمجمعات العمرانية الفاخرة. هذا مما يجعل من فكرة "الفن للفن" ضرباً من العبث.
الفكرة الأخرى يُعبِر عنها الكاتب بالقول إن قارئ صفحات الحوادث في السنوات الثلاث الأخيرة سيجد كمية من الشر تماثل ما في المُسلسل، ورُبما تتفوق عليها. هذه مُفارقة الفن/الحياة، فالحياة لا يحكمها نسقٌ واحد كما الفن، والفن لا يستطيع أن يكون عشوائياً لأنّه يتضمن عملية اختيار وحذف، وعملية بناء وهدم. الفن عمدي وقصدي بشكلٍ لا يُمكِن أن تكونه الحياة. وإذا سلمنا بأن الفن حُلية جمالية - الفن للفن حُلية جمالية أولاً وآخراً - فإنّ المُقترب الجمالي الوحيد الذي يوفره السبع وصايا هو الشادن.فرويده schadenfreude، المُتعة الخبيثة التي يبعثها في النفس تعاسة الآخرين وعرض الشرير والقبيح والشنيع. (والشادن.فرويده جُزء من جاذبية مُسلسلات رمضان في الأعوام الأخيرة). كذلك، لا يُمكِن فصل جو الدروشة والخُرافة والسحر عن الأجواء الخرافية التي تشيع في الحياة الواقعية، مثل الأحلام التي يُصلي فيها الصحابة بالسياسيين المحليين، أو الساعة الأوميغا، أو المخطوطات الفرعونية التي تتحدث عن (المُختار).
ثمة افتتانٌ قديم بالشر عند الفلاسفة والمتكلمين ومن تبعهم، وعند المُثقفين وأشباههم. هذا الولع بالشر في حقيقته ولعٌ تافه، لأن الشر موجود بشكلٍ دائم، يتعامل مع اليومي والخسيس والوضيع، ويرمي إلى كسبٍ آني قليل. الشرُ سهلٌ للغاية، والقيام به لا يتطلب أي شجاعة أو مسؤولية أخلاقية. والافتتان بالشر يضع النُخَب في مكان الرعاع، ويساويهم بهم، لذا وجب اختراع أنظمةٍ تُفرغ الشر من محتواه، والخير من محتواه، وتحولها إلى بُنى لغوية فارغة. لعله لهذا، يشيع دينٌ جديد في العالم.
يتحدث سلافوي جيجك عن ذيوع البوذية في الغرب. البوذية نوعٌ من الصوفية الشرقية التي تُجيز لشخصٍ أن يكون "روحانياً" في الوقت نفسه الذي يُثري فيه على حساب الملايين. البوذية توفر غطاء روحانياً - وفكرياً - للخواء، ولا تتطلب مسؤولية أخلاقية ولا شجاعة سلوك طريق الخير. قد لا تكون البوذية في أصلها كذلك، لكنها - بوصفها فلسفة - وفرت إمكانية التجهيل والفراغ هذه. الصوفية تلعب الدور نفسه في العالم العربي، فعودتها ليست عودة أدبيات استشهادية مثل أدبيات الحلّاج. (يُمكِن القول إن قصة الخواجة عبد القادر قصةٌ عن استشهاد الحلاج، وفيما كان استشهاد الحلّاج استشهاداً واقعياً، فإن استشهاد الخواجة مجازي، الأمرُ الذي يعود إلى الفراغ الذي يُميز عودة الصوفية). عودة الصوفية هي عودة البديل الإسلامي للبوذية، والبديل الإسلامي للديانات الفاشية الجديدة.
كُل نظامٍ فاشي أو نازي يعتمد على الخُرافة والدروشة، حتى لو اكتسى مظهراً علمياً - كما هي حالة النازية. ثمة حالةٌ من الهستيريا الخُرافية تُحيط التعامل مع الأجانب، والتجارب الطبية النازية لم تكن "علمية" صارمة، بل كانت سحرية وشامانية. الدين الجديد يعتمد دوماً على عناصر تاريخية، وعلى فلسفات موجودة أصلاً، ويدمجها مع الدروشات الشعبية، ومع الألاعيب الجماعية ليخلُق المُخدر الجديد للنُخَبِ قبل الجموع. ومُخدِر الصوفية يتعلق بالتجهيل: لُغة الصوفية لُغةٌ لا تهدف للإفصاح والإبانة، بل للإخفاء والتجهيل. الأمرُ نفسه يُمكِن مُلاحظته في إعلانات آبل، فالآيباد ليس جهاز حاسوبٍ لوحي له داراتٌ كهربية مُبرمج بطريقةٍ تجعله يستجيب للمس ويقوم بوظائف متعددة: الآيباد (سحر). آبل تُقدم (سحر) التكنولوجيا. غوغل تجلب نتائج البحث بلمسة (سحرية). ثمة تغليف للحرفة بالسحر، وهذا السحر يهدف إلى تجهيل الجموع. هذه الحركة تُعبر عن نفسها في صورٍ متعددة: قصص (النجاح) التي باتت صناعة بحد ذاتها تعتمد على مُغالطة سردية محورية، وتعزل قصص النجاح الفردي عن ظروفها الاجتماعية والاقتصادية مُنشئة خطاباً مفاده أنّه بإمكان أي أحدٍ أن يكون ثرياً، وأنّه لا يوجد نظامٌ قمعي يُسيطر على منابع الثروة ويمنع إعادة توزيعها على المجاميع. الهدف من قصص النجاح هذه ليس إقناع الأفراد بأنهم يُمكِن أن يكونوا الشخص المُتخم بالمال القادم - بغض النظر عن أي تجارةٍ يُمارسها - بل استلال نقمة الجموع على تركيز الثروة: إن الثروة، مثلها مثل القداسة، مسألة سرّانية غامضة تُوهَب لأشخاصٍ مُصطفين - أو مُجتبين - بغض النظر عن فضائلهم الشخصية، فكما يقول ابن عربي: "فيا طاعتي لو كنتِ كنت مُقرباً/ومعصيتي لولاكِ ما كُنت مُجتبى". الطريقة التي تتوزع بها الثروة والقداسة طريقة اعتباطية داخل النظام الذي يستخدم هذه الاعتباطية ذاتها لحفظ نفسه، وللمجاميع فإن هذا يُفسَر تفسيراً مُقدساً فإمّا أنّه سحر (سحرٌ طيب) وإمّا أنّه هبةٌ ربانية لا دخل للعوامل المادية بها. والنظام يحرص على استبعاد كُل مُعترض مُستخدماً أدبياتٍ من قبيل: "ومن تفكر في الدُنيا ومهجته/أقامه الفكر بين العجز والتعب". (المُتنبي ليس مُتصوفاً، لكنّه كان من مُمارسي الدين الجديد المتحمسين)، أو - بالعودة إلى ابن عربي: "وما النور إلا في مُخالفة النُهى".
بطبيعة الحالِ، فإن هذه الفلسفاتِ بحد ذاتها أكثر تعقيداً وتفرعاً، ونقاش هذه التفريعات والتعقيدات لا يُهِم أغراض المقالة، المُهِم كيف تعمل آلية "التجهيل" بوصفها جزءاً من الدين الجديد، فالخلاص فردي دوماً، لا جمعي. والأشعار الصوفية توفر ألعاباً عقلانية للمتعلمين الذين ينشغلون بمحاولة تفسير إشاراتها السرّانية، ويُعطيهم الإمساك بمعنى أو إشارةٍ باطنية نشوةً زائفة مفادها أنهم حازوا على علمٍ ما، معرفةٍ باطنية لا تُتاح لبقية الخلق. معرفة تقسم العالم إلى أهل حظوة، ومجاميع عمياء، بشكلٍ يُشبه ما يحدث مع نصوص ت. س. إليوت، إذ ينشغل المتعلمون بمعرفة الإشارات التي يزخر بها النص، فيما جوهر النص، المعنى الكُلي، يضيع، ومن يُفسِر الإشارات يستطيع أن يُقنع نفسه بأنّه يملك معرفةً سرّانية خاصة، لكن هذه المعرفة لا تُفيد.
اللا شيء المقدس
يُقال إن يوكيو ميشيما قد وصف اليابان بأنها "اللا شيء المُقدس" في ردٍ له على صحفي سأله عن سر غيابِ أي عناصر تراثية يابانية عن منزله. (٢) رد ميشيما قد يكون بداهةً حاضرة من كاتب ذلِق اللسان، إلا أنّه يمس جزءاً من حقيقة أن نظام الرموز والإشارات والتحولات اليابانية المُعقد يُشير إلى لا شيء آخر الأمر، وفي نهاية المطاف فإن آخر جملة في كتاب ميشيما الأخير تعفن الملاك كانت: "حديقة ساكنة تخلو من الذكريات". لا شيء مُقدس، من جديد.
يقول كاتب السبع وصايا، محمد أمين راضي، في مقابلة مع قناة العربية إن مسلسله ليس صوفياً، وإن زيارة الأضرحة ليست دليلاً على الصوفية، بل مُمارسة شعبية عامة. وإنّ نصه يدخل في باب الواقعية السحرية. الواقعية السحرية بدأت - ولا تزال في سوادها الأعظم - تجلياً للدروشة الصوفية الكاثوليكية. أي أنّه مُسمى للأمر نفسه. وما يُقال عن التجهيل الذي تُمارسه اللغة الصوفية يُمكِن أن يُقال عن التجهيل الذي تُمارسه "رمزية" الواقعية السحرية، فالواقعية السحرية لا تقاوم الظلم ولا تُقارعه، ولا تتحدث عن خلاص جمعي، بل إنها نوعٌ من الدروشة يهتم بالمصائر العجيبة التي لم تنشأ عن مظلومية واقعية بل عن تركيبة سحرية. الواقعية السحرية تُقدِم العجيب والفريد والمشوش والشنيع والجذاب، مثل عروض الحواة، بحيث تخلق "لا شيء مُقدساً" لا يُشير إلى أي شيء. لا يُحِق حقاً ولا يُبطِل باطلاً، ولا يُقدم غير الألاعيب اللغوية والسرّانية ذاتها للصوفية وللكلمات شبه التنبؤية.
يقول غابرييل غارسيا ماركيز - وقد ضاق صدره بمن ينتقدون الأساس المعرفي لعمله - إنّ التزام الأديب الوحيد أن يكتب "رواية جيدة". عندما يقول ماركيز "رواية جيدة" فإنّه يقصد الصنعة: هل هي رواية مكتوبة جيداً؟ هل هي رواية "جذابة"؟ وهو بذلك لا ينفي أن الواقعية السحرية ليست إلا ضرباً من الدروشة. كُتابٌ أمريكيون لاتينيون آخرون مثل روبرتو بولانيو ينتقدون الواقعية السحرية ويحملون عليها بشدة، لكن نقد روبرتو بولانيو للواقعية السحرية ناقصٌ لأنّه ينشغل بتوجيه الإهانات لكُتاب الواقعية السحرية الأفراد، عِوَض الإشارة إلى "لا شيء الواقعية السحرية المُقدس".
في روايات ماركيز ثمة أنواعٌ فريدة من الشخصيات الوحشية المُجرمة التي يجري تصويرها بوصفها شخصيات "جذابة"، حتى الرواية التي قرر فيها أن يُقارع الطاغية مُباشرة، خريف البطريارك (١٩٧٥)، عبارة عن تمرينٌ لغوي فارغ مثله مثل التمارين اللغوية التي توفرها الصوفية و"الأرض اليباب". الأمرُ نفسه يُمكِن أن يُقال عن إيزابيل آيندي - رغم أن لها التزامات مُعلنة بالقضايا الحقوقية - وماريو بارغاس يوسا - الذي ليست له التزامات حقوقية مُعلنة غير أنّه يلوم غابرييل غارسيا ماركيز لكونه جزءاً من حاشية الظلمة - وميغيل آنخل آستورياس وغيرهم. مما استوجب (رِدةً) عن الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية.
وخارج أمريكا اللاتينية فإن الواقعية السحرية لم تنجح إلا في استحضار المُغيّب دائماً، ومن ثم تجهيله أكثر وتحويله إلى "لا شيء مُقدس"، إلى تمرين لغوي فارغ، الأمرُ الذي يُمكِن مُلاحظته في آيات شيطانية (١٩٨٨). على سبيل المثال، التي حولت التقليد الإسلامي (الصوفي) إلى واقعية سحرية همشت المُهمش وغيبت المُغيب.
أنجح عُنصرٍ في مسلسل السبع وصايا - نجاحاً مُستحقاً - موسيقى المُقدمة والخاتمة لهشام نزيه. تستخدم الموسيقى واحدة من قصائد ابن عربي القصيرة "فلله قومٍ في الفراديس"، جامعةً بين الأناشيد الصوفية وبين الموسيقى الغربية سريعة الإيقاع. المؤلف يقول إن هذا التناقض بين النشيد الصوفي والموسيقى المُصاحبة له يهدف إلى فصلِ المُسلسل عن الصوفية، لكن هذه الحجة لا تنجح، لأن النظام الفكري الجامع للصوفية (والبوذية والشنتوية وبعض الممارسات السرّانية الكاثوليكية والجماعات الهرمزية) نظامٌ يقوم على جمعِ المُتناقضات في وحدةٍ واحدة (تؤدي إلى اللاشيء المُقدس الذي له أسماء عديدة)، والموسيقى تُدرِك هذا بذكاء وحذاقة.
جزءٌ كبير من جاذبية الموسيقى للجموع أنها غير مفهومة، يُمكِن تمييز بعض الهمهات، وكلمةٍ هُنا أو هُناك، لكن النص الكُلي نصٌ مُبهِم يجذب الناس مثل كلامِ الكُهان. (وهذه ظاهرة عالمية من ظواهر الدين الجديد، يوجد أوضح تمثيل لها في فريق +eRa+ الموسيقي الذي يُنتج موسيقى New Age تستوحي تقاليد النشيد الكنسي الغريغوري وتستخدم لغة مُصطنعة شبيهة باللاتينية، Pig Latin، لتخلق لغةً شبه تنبؤية). يُمكِن العثور على كلمات ابن عربي، ومحاولة تفسيرها، الأمر الذي يوفر اعتقاداً زائفاً - كما أسلفنا - بامتلاك معرفةٍ سرّانية، لكن الموسيقى في أصلها تهدف إلى تحقيق أثر التجهيل باستخدام اللغة نفسه، وتكاد تكون مثل "دوش وقت سحر آز غصة نجاتم دارند".
في المُقابل، تخلق اللغة الصوفية في الخواجة عبد القادر بُنية معرفية واضحة، إذ يُمكِن فهم كلمات الكورس بوضوح شديد من مُجرد السماع. وفي هذا، فإن الموسيقى تتضافر مع فكرة "هداية" الخواجة، فتُقدم الوضوح بعد إبهام، وتتحدث عن عشقٍ خالص (الذات الإلهية/زينب)، واعتزالٍ للناس بعد هذا العشق، من باب الاستغناء بالمحبوب عمّن سواه. (ومن باب اعتزال مُقارعة الظلمة)، مع ذلك، فإن النصَ مُحملٌ بالإشارة الأصلية، استشهاد صاحب النص، الحلّاج.
في الخواجة عبد القادر تضافرت عناصر الكتابة (كمال عبد الرحيم) والإخراج (شادي الفخراني) والتصوير (فكتور كريدي) والمونتاج (داليا الناصر) والإضاءة (والموسيقى (عمر خيرت) مع التمثيل لتُنتج عملاً مُكتملاً في ذاته (مع بعض التحفظات، إذ أن شادي الفخراني يُقرر أن يُقدم فقراً شديد الأناقة والنظافة، وهذا في حد ذاته خيارٌ يستحق المُناقشة بشكلٍ مُستقل).
في السبع وصايا فإن الاعتماد يقع على الكتابة (محمد أمين راضي) والتمثيل (المتفوق في مجمله) والموسيقى (هشام نزيه) والمقدمة.
كلا العملين يقع في مأزق الشكل الاستهلاكي الذي يحكم الدراما التلفزيونية، والشكل الممطوط الذي يحكم الدراما التلفزيونية العربية بالذات، فالمُسلسلات تُعرض في رمضان بشكلٍ يومي، لذلك، فإن المُسلسل الذي تكفيه عشر حلقاتٍ يجب أن يستمر لثلاثين حلقة، فيظهر المط والتطويل وتمديد الحبكة بما لا يحتمله الحدث.
بطبيعة الحال، فإن الفن - آخر الأمر - موضوع شخصي، والتزامات الفنانين الأخلاقية والفكرية وكيفية التعبير عنها - أو الامتناع عن التعبير عنها - يرجع لهم، لكن الفن - بعيداً عن صانعه - عُنصرٌ فعّال في استبطان الثقافة الفرعية ومن ثم تحويلها إلى ثقافة التيار الرئيسي للرأي العام. ولكُلٍ قراءته للكيفية التي قد يستجيب بها الجمهور للعمل، فهنا شيحة، مثلاً، ترى أن المُسلسل يناقش ظواهر الدروشة والغيبيات، الأمر الذي له وزنه واحترامه.
الدين الجديد سيستمر، وستظهر له ظواهر أخرى، سواء بالوضوح الشديد الذي يستعير عناصر صوفية - أو واقعية سحرية - بشكلٍ جلي مثلما حدث مع الخواجة عبد القادر والسبع وصايا، أو بطريقة أقل وضوحاً وأكثر تورية. السبع وصايا يوغل في كُل ما هو وضيع، ويحفل بالدروشة، والدروشة والوضاعة لن يُنتجا إلا المزيد من الدروشة والوضاعة، مما يُركِس البشرية إلى أصولها غير الـ"إنسانية". الأمرُ الذي يتنبأ به بطريارك الواقعية السحرية، غابرييل غارسيا ماركيز، عندما يقول إن آخر نسل بوين ديا له ذيل خنزير.
(١)
باري باركر، السفر في الزمان الكوني، ت. مصطفى سليمان، م. جلال عبد الفتاح، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٩.
(٢)
مارغريت يورسنار، ميشيما: رؤيا الفراغ، ت. بسام حجار، بيروت: دار التنوير، ١٩٨٤.
هند هيثم (@HindHaitham) كاتبة من اليمن، وصاحبة مدونة تصدعت المرآة.
هناك تعليق واحد:
استطيع ان اسميها دراسة وليس مقالا
أكثر من رائع ، إستفدت منه كثيرا وتوجب علىّ أن أشكرك
إرسال تعليق